مقالة لمجلة بقية الله بعنوان: الفرعونية في القرآن.
- المجموعة: مقالات
- 06 حزيران/يونيو 2014
- اسرة التحرير
- الزيارات: 24053
لا شك أن لفرعون صفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافرا، عابدا للأصنام، ظالما مجرما .. إلا أن القرآن طرح بقوة من بين كل هذه الانحرافات مسألة طغيان فرعون واستكباره واستبداده قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص /4.
ويمكن القول أن فرعون احتل مكانا بارزا في تاريخ الطغاة في الأرض، وانه احتل مكانه هذا بجدارة واقتدار، وذلك انه لم يكن إنسانا عاديا، ولا كان طاغية بسيطا، وإنما كان طاغية مركبا وجبارا ومستكبرا.
كان ملكا على مصر حين كانت مصر أكبر دولة في الأرض، وكان المتصور وقد اتاه الله الملك والسلطان أن يتواضع ويشكر .. ولكنه لم يفعل .. وفعل العكس تماما.
وقد برزت فرعونية فرعون في سلسلة من الأفكار والممارسات التي اقدم عليها والتي يمكن تلخيصها في ما يلي:
الاستبداد والطغيان:
فإن فرعون هو النموذج التقليدي للطغيان والاستبداد، فقد استكبر وعلا في الأرض، وعلى امتداد مصر كلها لم يكن هناك رأي سوى رأيه هو، ولا كانت هناك مشيئة باستثناء مشيئته هو، ولا كانت هناك إرادة غير إرادته هو.
لقد ذاب الشعب المصري كله في إرادة فرعون، وصار فرعون هو مصر، وتحولت مصر إلى فرعون، وهذا أول ما يفعله استبداد الطغاة بالشعوب، إنه يعدم إرادة الناس ويجهز عليها .. ويدمر حرية الإنسان التي هي اهم جزء من كرامته كإنسان.
وكان أخطر ما فعله فرعون أنه ابتدع في الطغيان،وابتكر وتفنن، وكان ذلك هو السبب في إرسال موسى (ع) إلى فرعون حيث يقول تعالى (إذهب إلى فرعون إنه طغى). طه/24.
يحدثنا القرآن عن استخفاف فرعون بشعبه وخضوع الشعب له. (فاستخف قومه فأطاعوه)، وهذا مظهر آخر من مظاهر طغيانه واستكباره.
إذ المفروض أن يؤدي استخفاف الحاكم بشعبه إلى ثورة الشعب عليه وعصيانه أو على أقل تقدير إلى مقاومته والامتناع عن طاعته.
هذا هو الاصل المفروض في اي مناخ طبيعي ولكن حكم فرعون لمصر لم يكن حكما طبيعيا، وإنما كان الحكم استبداديا جائرا قاهرا، يتعامل بالسيف مع كل رأي معارض أو مخالف أو تفوح منه رائحة المعارضة أو إمكانياتها، وفي الحكم الاستبدادي، تلتوي فطرة الناس وتفسد نفوسهم وتتراجع إرادتهم، ويصبح همهم هو النجاة من القتل والعذاب والمطاردة والترويع والسجن.
وهذا ما حدث للشعب المصري في عهد فرعون موسى.
من هنا لم يعد للشعب دور، ولا عادت له إرادة.
والمظهر الآخر من مظاهر الطغيان الفرعوني هو استضعافه لجماعة من اهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله (يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص /4.
فقد كان فرعون أصدر أمرا بأن يراقبوا الاطفال الذين يولدون من بني إسرائيل، فإن كانوا ذكورا ذبحهم وإن كانوا إناثا تركهن للخدمة في المستقبل في بيوت الأسرة الحاكمة.
وكان يهدف فرعون من وراء عمله هذا، القضاء على موسى (ع) من حين الولادة، حيث رأى في منامه أن شعلة من النار توهجت من بيت المقدس واحرقت جميع البيوت في مصر، ولم تترك بيتا لأحد من الأقباط إلا أنها لم تمس بيوت بني إسرائيل بسوء، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك، فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة.
ولعل ورود جملة (يذبح ابناءهم) بعد جملة (يستضعف طائفة منهم) في الآية الآنفة، يوحي بأن الفراعنة اتخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل، يذبح الابناء لئلا يستطيع هؤلاء أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم،وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ليكبرن ثم يخدمن في بيوتهم.
ويبدو ان مشروع قتل الابناء واستحياء النساء كان قائما حتى بعد ظهور موسى (ع) ومجيئه إلى الفراعنة كما يستفاد من قوله تعالى (فلما جاءهم بالحق من عندنا قال اقتلوا ابناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال) المؤمن/25.
وجملة (يستحي نساءهم) في الآية يظهر منها أنهم كانوا يصرون على ابناء البنات والنساء، إما لكي يخدمن في بيوت الأقباط، أو للاستمتاع الجنسي، أو لكلا الأمرين معاً.
وفي آخر جملة من جمل الآية تأتي الآية بتعبير جامع يلخص كل مظاهر طغيان وبغي وجور فرعون فتقول (إنه كان من المفسدين).
وباختصار فإن عمل فرعون يتلخص في الفساد والإفساد في الأرض فاستعلاؤه واستكباره كان فسادا، واستبداده فساد اخر، ومطاردته للناس وتعذيبهم واسضعافهم وذبح ابناءهم واستحياء نساءهم فساد ثالث، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرة أخرى ايضا كما سيتضح من خلال ما سيأتي.
ادعاؤه الربوبية:
لقد ظل فرعون يصعد سلم الكبرياء حتى وصل إلى نهايته وتجاوز هذه النهاية واعلن أنه هو الرب الأعلى .. وأنه لا إله سواه.
وهذا ما تحدث عن القرآن الكريم بقوله تعالى: (ثم ادبر يسعى، فحشر فنادى، فقال انا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) النازعات /22 - 26
ففرعون لم يكتف بتكذيبه لموسى وعصيانه له، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف بوجهها، بل تعدى وتجاوز الحدود بصورة مفرطة جدا، وافترى على الله وعلى نفسه باقبح ادعاء حينما ادعى لنفسه الربوبية على شعبه وامرهم بطاعته. نعم فحينما يقبع المتجبر في مركب الغرور،وحينما تلفه امواج الأنانية المفرطة، حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية، بل ويجره فقدان البصيرة، وانحسار الفطرة بين ظلمات الأنانية ليدعي في نهاية المطاف الربوبية لنفسه.
ومن اجل أن لا يخدش معتقدات الناس فقد اخبرهم بأنه لا يعارض ما لهم من اصنام يعبدونها، ولكنه فوقها جميعا فهو المعبود الأعلى.
ولعل من المفارقات أن فرعون نفسه كان احد عبدة الاصنام كما يستفاد من قوله تعالى: (اتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض،ويذرك وآلهتك ) الأعراف/ 127، فادعاءه بأنه الرب الأعلى قد سرى حكمه حتى على ربه ليكون عبدا له! وكذا هو هذيان الطواغيت والفراعنة.
وقد ادعى فرعون بأكثر من رب الأرباب ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة، حينما خاطب قومه فيما يحكيه عنه القرآن: (ما علمت لكم من إله غيري)!
وعلى أية حال، فقد حل بفرعون منتهى التجبر والتكبر والطغيان، فأخذه الله جبار السموات والأرض أخذ عزيز مقتدر: (فاخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك عبرة لمن يخشى) النازعات/ 25 – 26
نعم فقد أُغرق فرعون، وزال ملكه، وسقطت دولته، وصار درساً شاخصاً لكل الطواغيت والجبابرة، وعبرة لمن سار على نهجه الفاسد في كل عصر ومصر.
ولا يجني من سار على خطاه سوى ما جنت به يداه، تلك هي سنة الله ولا تغيير ولا تبديل لسنته جل شأنه.
سياسة تمزيق صفوف الناس:
فإن فرعون ومن أجل تقوية قواعده الاستكبارية فقد اقدم على تمزيق صفوف الناس والتفريق بين أهل مصر (وجعل أهلها شيعا) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم ونفوذهم وسيطرتهم على الشعوب والجماعات السياسية.
فالسلطة المستكبرة لا تسيطر على الأكثرية، إلا بالخطة المعروفة (فرق تسد) واتباع سياسة الاستفراد مع التكتلات والتجمعات المعارضة أو المناوئة. فهم يخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض، ويستوحشون من توحيد الكلمة والموقف، ولذلك يلجأون إلى هذه السياسة التي تتكفل بقاءهم ونفوذهم وهيمنتهم على الشعوب، تماما كما صنعه فرعون مع اهل مصر. وكما يصنعه الفراعنة والطواغيت في كل عصر ومصر.
فقد قسم فرعون أهل مصر إلى طائفتين: الأقباط والأسباط. فالاقباط هم اهل مصر الاصليون الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في ايديهم مقدرات لدولة واجهزة الحكومة، والاسباط هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم وفي قبضة الاقباط، وكانوا محاطين بالفقر والحرمان، ويحملون اشد الاعباء من دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً.
إن القرآن الكريم يرسم في مواجهة الفرعونية واستكبارها أملاً أمام كل المستضعفين في الأرض بقوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض لهم بقوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) ولا خلف لموعد الله أليس الصبح بقريب؟
والحمد لله رب العالمين