ما هو سرّ وجود المتشابه في القرآن؟ (70)
- المجموعة: هدى القرآن
- 08 شباط/فبراير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 6958
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وأُخرُ متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) آل عمران/71.
قلنا في الحلقة الماضية إن الكلام في هذه الآية يدورُ حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما، وأنه من أجل ان نفهم ما تشيرُ إليه الآية لا بد من ملاحظة عدة نقاط.
وقد ذكرنا في النقطة الأولى المعنى المقصود من المحكم والمتشابه وبينا نماذج من الآيات المحكمة والآيات المتشابهة, وذكرنا في النقطة الثانية معنى كون الآيات المحكمات هُن أُمُ الكتاب, وبينا كيفية تفسير الآيات المتشابهات بالآيات المحكمات، وكيف أن بعض الفئات من الناس ممن في قلوبهم زيغٌ وانحرافٌ حاولت استغلال الآيات المتشابهات لإضلال الناس وفتنتهم عن دينهم.
وفي هذه الحلقة نتحدث عن بقية النقاط لنشير فيها إلى بقية المواضيع التي أشارت إليها هذه الآية.
فالنقطة الثالثة: هي أنه من الواضح أن القرآن الكريم جاء لهداية جميع الناس، ومن المفترض في الكتاب الذي يكون هدفه هداية الناس أن يتحدث بلغةٍ وبعبارةٍ واضحةٍ بينةٍ ومفهومةٍ لكل الناس, فما هو سبب اشتمال القرآن على آيات متشابهات فيها إبهام وتعقيد وغموض بحيث يستغلها المفسدون لإثارة الفتنة وتضليل الناس؟؟ وبعبارة أخرى ما هو سرُ وجود المتشابهات في القرآن؟؟
والجواب: إنه يمكن أن يكون السرُ في وجود الآيات المتشابهات في القرآن عدة أمور:
أولاً: إن هناك كثيراً من الحقائق والمعاني التي تختص بعالم الآخرة أو بعالم ما وراء الطبيعة تكون بعيدةً عن تفكيرنا, بمعنى أننا بحكم محدودية تفكيرنا لا نكون قادرين على إدراك وفهم عُمق تلك المعاني, فقصور عقولنا من جهة وسمو تلك المعاني من جهة أخرى يكون سبباً من اسباب التشابه في بعض الآيات, فمثلاً قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً)الفجر/22. يكون من الآيات المتشابهة، لأن عقولنا لا تفهم من المجيء إلا الحضور الجسمي والشخصي مع أن الآية بالتأكيد تهدفُ إلى معنى آخر من الحضور والوجود الإلهي, ولأجل قصور عقولنا عن فهم وعلم ذلك المعنى الذي تهدِف اليه الآية مثلاً تصبحُ الآية من الآيات المتشابهة والغامضة.
وثانياً: إنه قد يكون من أسرار وجود المتشابهات في القرآن، إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكريةٍ بين الناس، وهذا اشبهُ بالمسائل الفكرية المعقدة التي يعالجها العلماء من أجل تقوية افكارهم وتعميق دقتهم في المسائل، فوجودُ بعض الآيات الغامضة في القرآن والمعقدة من حيث المعنى، يدفع بالناس نحو التدبر في القرآن والتعمق في معرفته واكتشاف معانيه، ويبعث على التأمل والتفكير في مضمون الآيات القرآنية لاكتشاف حقائق القرآن وأسراره.
وثالثاً: إن الحكمة الأخرى التي تردُ بشأن وجود المتشابهات في القرآن وتؤيدها الأخبار والأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) هي أن وجود هذه الآيات في القرآن الكريم أي الآيات المتشابهات، يجعل الناس بحاجة أكثر إلى القادة الإلهيين والنبي والاوصياء، فيكون وجود هذه الآيات سبباً يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء القادة والاعتراف بقيادتهم ومرجعيتهم عملياً، والاستفادة من علومهم المختلفة، وهذا اشبه شيء بوجود بعض الكتب المدرسية التي يكون فيها بعضُ المواضيع المعقدة التي يحتاج فهمها إلى المدرس والمعلم, من أجل أن لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم, ولكي يستمروا بسبب حاجاتهم إلى شرح بعض المواضيع في التزود من الأستاذ ومن علومه في مختلف المواضيع والمجالات الأخرى.
هذا كله فيما يتعلق بالحكمة من وجود الآيات المتشابهة في القرآن.
أما النقطة الرابعة: التي تثيرها الآية فهي تدورُ حول معنى التأويل الوارد في الآية تقول الآية: (ابتغاء تأويله وما يعلم تأويله) فما هو معنى التأويل؟؟
التأويل مأخوذٌ من الأول بمعنى الرجوع إلى الاصل، فالمقصود من التأويل في الآية هو إيصال الكلام إلى الهدف النهائي المراد منه, فإذا تحدث أحدٌ أمامك بكلام ولم يكن هدفه من هذا الكلام واضحاً ثم جاء شخصٌ ووضح لك كلامه وبين لك الهدف النهائي المقصود من كلامه، فهذا هو التأويل, ونقول لهذا الشخص بأنه أوَّل كلام فلان, يعني أوصل الكلام إلى الهدف النهائي المراد منه.
فهنا التأويل في آيات القرآن يعني أن توصل آيات القرآن إلى الهدف النهائي المقصود منها, فإذا وضّحت آيات القرآن بكلام فيه مفاهيم ومعاني شكل الهدف النهائي لتلك الآيات فذلك هو التأويل، الآية تقول: إن ذوي الأفكار المنحرفة والأهداف الفاسدة يؤولون الآيات المتشابهات بصورة تخالف حقيقتها, فهم يُرجِعون الآيات إلى معانٍ لا أساس لها وعلى خلاف الحق وعلى خلاف المراد منها، لخداع الناس وتضليلهم.
وأما النقطة الخامسة: فهي أن تأويل القرآن وإرجاع الآيات إلى الهدف النهائي المقصود منها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم, تقول الآية: (وما يعلم تأويله إلا اللهُ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا). فما هو المقصود من هذا المقطع من الآية؟ هل أن معنى الآية هو أن القرآن لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم معاً؟ أم أن معنى الآية أنه لا يعلم تأويل القرآن إلا الله فقط؟ أما الراسخون في العلم فلا يعلمون تأويله وإنما يقولون آمنا به أي بالقرآن ويسلمون بأن القرآن وتأويله من عند الله؟؟
في الجواب عن هذا التساؤل نقول: إن هناك قولين للمفسرين في ذلك: البعض يقول إن معنى الآية أن الله وحده الذي يعلمُ تأويل القرآن, لأن جملة والراسخون في العلم هي جملةٌ مستقلة وليست معطوفةً على (إلا الله)، بينما يقول البعض الآخر: إن معنى الآية أن الله والراسخون في العلم معاً يعلمون تأويله، لأن جملة (والراسخون في العلم) معطوفةٌ على (إلا الله) وليست جملةً مستقلة.
وهكذا فإن لكل فريقٍ من هذين الاتجاهين أدلتُهُ وبراهينُهُ وشواهدهُ، ولكننا نقول إن القرائن والمؤشرات الموجودة في الآية، والأحاديث الإسلامية المنسجمة منها تشير إلى أن جملة (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) معطوفة على جملة (وما يعلم تأويله إلا الله)، وبالتالي فإن المراد من الآية أن الذي يعلم تأويل القرآن هو الله سبحانه والراسخون في العلم أيضاً، وذلك لعدة أمور:
أولاً: إنه يستبعد كثيراً أن تكون في القرآن آيات لا يعلمُ اسرارها وتأويلها إلا الله وحده, فإن هذه الآيات نزلت لهداية الناس وتربيتهم فيكف يمكن أن لا يعلم بمعانيها وتأويلها حتى النبي الذي أُنزلت عليه والذي يفترض أن يهدي الناس بها؟؟
وثانياً: إن العلامة الطبرسي في تفسير مجمع البيان يقول: لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسرين من يمتنع عن تفسير آيةٍ في القرآن بحجة أنها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله, بل كانوا جميعاً يفسرون جميع الآيات ويجتهدون لكشف اسرار القرآن ومعانيه, فلو لم يعلم تأويل القرآن إلا الله لما أمكنهم أن يعرفوا هم أسرار الآيات.
وثالثاً: إن الأحاديث الإسلامية الواردة في تفسير هذه الآية بالخصوص تؤكد أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل الآيات.
إذن هذه الامور الثلاثة تدل على أن معنى الآية أن الذي يعلم تأويل الآيات هو الله والراسخون في العلم معاً.
وقد ورد في الأحاديث أن الراسخين في العلم هم النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) فإن هؤلاء الأطهار هم أبرز مصاديق الراسخين في العلم.
فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى: (وما يعلم تأوليه إلا الله والراسخون في العلم) أنه قال: يعني تأويل القرآن كله، والراسخون في العلم، فرسول الله أفضلُ الراسخين، وقد علمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلُه. تفسير العياشي:ج1/164.
وإذا كان النبي (ص) وأئمة أهل البيت الذين يعلمون تأويل القرآن واسرار القرآن وهم الذين يفهمون جميع حقائق القرآن وأهدافه, فإن معنى ذلك أن علينا أن نأخذ عنهم معان القرآن وأن نتعلم منهم مبادئه ومفاهيمه وأحكامه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين