الحلقة 44
- المجموعة: هدى القرآن
- 13 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3605
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.يقول تعالى: (قد نرى تقلُّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شرطه وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما تعملون).
هذه الآيات تشير إلى حدث تاريخي تشريعي هام من أحداث التاريخ الإسلامي، هذا الحدث كان له آثاره الكبيرة في داخل المجتمع آنذاك، وهو حدث تغيير وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة.
فقد كان الأنبياء السابقون يصلون إلى بيت المقدس، وقد صلى النبي (ص) والمسلمون بأمر الله سبحانه باتجاه بيت المقدس مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة, ثم تغيرت القبلة وأمر الله المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة المشرفة في مكة.
وقد اختلف المفسرون والمؤرخون في المدة التي صلى خلالها المسلمون بعد الهجرة إلى بيت المقدس، فذكروا مدداً مختلفة تتراوح بين سبعة وسبعة عشر شهراً.
وكان المسلمون خلال كل هذه المدة صلاة المسلمين تجاه بيت المقدس، يتعرضون إلى لوم اليهود واستفزازاتهم حيث كانوا يعيرون المسلمين ويقولون عنهم: إن هؤلاء غيرُ مستقلين وتابعون لنا لأنهم يصلون إلى قبلتنا وهذا دليل أننا على حق, فكان النبي (ص) يغتمُ لهذه الأقوال، ويتألم منها، لأنه كان يخشى على المسلمين من أن يتأثروا بمثل هذه الاقوال فتهتز قناعاتهم بالإسلام ويتزلزل إيمانهم, فيستفيد اليهود وأعداء الإسلام من هذه الفرصة لتضليل المؤمنين عن دينهم وصد غيرهم عن التوجه إلى الإسلام والدخول فيه, ولذلك فقد كان النبي (ص) يتمنى لو يحولُ الله القبلة إلى الكعبة لتفويت الفرصة على أعدائه من اليهود وغيرهم.
وكان ينتظر الإذن بذلك لأنه كان قد وعد بتحويل القبلة , واستمر الانتظار مدة والنبي يقلب وجهه في السماء انتظار الوحي حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة والتوجه نحو المسجد الحرام في مكة.
وتقول بعض النصوص التي تتحدث عن سبب نزول الآية: إن النبي (ص) خرج ذات يوم في جوف الليل يقلب وجهه في آفاق السماء ينتظر أمر الله سبحانه بتغيير القبلة، فلما أصبح في اليوم التالي وجاء وقت صلاة الظهر قام النبي (ص) والمسلمون معه يؤدون صلاة الظهر في أحد مساجد المدينة وهو مسجد بني سالم، وفي أثناء الصلاة وبعد أن صلى النبي (ص) ركعتين منها، نزل جبرائيل فأخذ بذراع النبي (ص) وحوله نحو الكعبة وأنزل عليه (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) إلى آخر الآية.. فصلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة في تلك الصلاة.
ومن المفيد أن نذكر هنا أن تحويل القبلة من بيت المقدس كان من علامات النبي (ص) المذكورة في الكتب الإلهية السابقة في التوراة وفي الإنجيل، فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النبي (ص) يصلي إلى القبلتين إلى بيت المقدس وإلى الكعبة. لذلك تضيف الآية وتقول: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم)، أي أن أهل الكتاب يعرفون تمام المعرفة بأن تغيير القبلة عند المسلمين إنما هو بأمر الله وأنه الحق الذي جاء من عند الله.
ولذلك تضيف الآية (وما الله بغافل عما يعملون) هؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة النبي والمسلمين ويستغلون هذا الحدث الهام لإثارة ضجة بوجه المسلمين بدل أن يتخذوه دليلاً على صدق النبي وصدق رسالته, هؤلاء سينالون جزاء أعمالهم والله ليس بغافل عن أعمالهم وأهدافهم.
ولا بد استكمالاً لتوضيح الآية من التوقف عند عدة نقاط:
النقطة الأولى: إننا نلاحظ أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة بل أمرتهم بالتوجه والصلاة (شطر المسجد الحرام) ولعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة, لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة نفسها لان المسجد أوسع بحيث يمكن محاذاته بالنسبة إلى المصلين البعيدين أكثر من الكعبة, هذا أولاً, وثانياً: إن كلمة شطر يراد بها الجهة والسمت, فالمطلوب هو الصلاة جهة وسمت المسجد الحرام , وبذلك يكون الاتجاه شطر المسجد الحرام عملاً ميسوراً للجميع وخاصة للبعيدين.
النقطة الثانية: إن الخطاب في الآية وإن كان موجهاً إلى النبي (ص) حيث تقول الآية في الفقرة الأولى (فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام) إلا أنه عام وشامل لكل المسلمين، لان طريقة القرآن الكريم إن كل تكليف شرعي موجه بظاهره للنبي, هو شامل لكل المسلمين الملكلفين، ولا يختص التكليف والخطاب به وحده إلا إذا كان هناك دليل يدل على أن التكليف أو الخطاب خاص بالنبي, مثلاً قوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) الإسراء/79. يوجب عليه صلاة الليل، وهذا تكليف خاص بالنبي (ص)، لأن كلمة (لك) في هذه الآية تدل على أن هذا التكليف خاص به ولا يشمل من عداه, ولذلك فلا يجب علينا نحن أداء صلاة الليل.
إذن فالفقرة الأولى من الآية تتوجه بالخطاب إلى النبي ويشمل الخطاب المسلمين أيضاً, ونلاحظ أن الفقرة الثانية من الآية تتوجه بالخطاب إلى المسلمين فتقول: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره). فالخطاب في هذه الجملة عام لكل المكلفين وليس لخصوص النبي.
وهنا قد نتساءل عن سبب هذا التكرار؟ ما هو السبب في توجه الخطاب في هذه الآية إلى النبي مرة, فتقول: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ومرة أخرى إلى عامة المسلمين, فتقول: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)؟؟ مع أن الخطاب للنبي كان ليشمل المسلمين من دون إعادة توجيه الأمر للمسلمين؟ .
والجواب: إن هذا التكرار قد يعود إلى أن مسألة تغيير القبلة مسألة حساسة آنذاك وقد أثارت ضجة في أوساط اليهود كما أشرنا, لأن اليهود انزعجوا بعد أن خص الله المسلمين بقبلة أخرى غير بيت المقدس، فكان من الممكن أن تؤدي هذه الضجة الى القول: بأن الخطاب موجه إلى النبي وليس إلى عامة المسلمين فلا يجب علينا أن نصل اتجاه الكعبة، لذلك خاطبت الآية الرسول مرة, وعامة المسلمين مرة أخرى, لتؤكد أن هذا التغيير في القبلة غير خاص بالرسول بل يشمل عامة المسلمين أيضاً.
النقطة الثالثة: انه لعل أحد أسباب تغيير القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بعد الهجرة, أن الكعبة في بداية البعثة النبوية كانت بيتاً لأصنام المشركين فلذلك أمر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقق الانفصال التام بين معسكر المسلمين ومعسكر المشركين, ولكن بعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في المدينة حدث الانفصال الكامل بين المعسكرين, بين معسكر الإسلام ومعسكر الشرك ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة, حينئذٍ عاد المسلمون إلى الكعبة باعتبارها أقدم قاعدة توحيدية وأعرق مركز للأنبياء, ومهما يكن فإن تحويل القبلة عزز من استقلال المسلمين وعمق تماسكهم حيث إنهم على اختلاف انتماءاتهم الجغرافية وألسنتهم وألوانهم توحدهم عقيدة واحدة ورسالة واحدة ويتوجهون جميعاً باتجاه قبلة واحدة، وهذا هو رمز وحدتهم وأحد أهم عوامل القوة والعزة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين