الذين آمنوا اشدُ حباً لله (54)
- المجموعة: هدى القرآن
- 23 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4139
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا اشدُ حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وان الله شديد العذاب).
(إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا وراوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرّءوا منا كذلك يُريهم الله اعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى، أن هناك نماذج من الناس يرتبطون ببعض الاشخاص من المنحرفين والظالمين بنفس المستوى الذي يرتبطون فيه بالله، ويحبونهم كما يحبون الله، ويوالونهم كما يوالون الله, ويتبعونهم كما يتبعون الله.
ثم يبين الله بعد ذلك أن الظالمين المتبوعين بعد ان يروا العذاب في الآخرة وتنقطع كل العلاقات والارتباطات بينهم وبين التابعين ولم يعد في استطاعة أحد ان يدافع عن قريبه أو عن صديقه أو عمن ارتبط به وكان تابعاً له في الدنيا، هؤلاء بعد أن تنكشف لديهم هذه الحقائق يتبرؤون من اولئك الذين كانوا تابعين لهم في الدنيا، وفي المقابل سيحاول التابعون الذين ارتبطوا بأولئك الظالمين وعملوا بعملهم سيحاولون ان يتبرؤا منهم ولكن بعد فوات الأوان, وستكون النتيجة أن كل اعمالهم التي فعلوها في الدنيا والتي أطاعوا بها أولئك الظالمين ستكون حسرات عليهم في الآخرة, لانهم سيواجهون المصير السيء الذي كان ينتظرهم نتيجة اعمالهم، وهو الدخول في النار وعدم خروجهم منها.
تقول الآية الاولى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). الإنداد جمع ند, والند: هو المثل والنظير تقول: فلان ند فلان, يعني مثله ونظيره في العلم او في القوة او في الثراء او في اي شيء آخر. فالله يقول: إن هناك نوعيات من الناس يتخذون من دون الله أنداداً, اي يجعلون لله امثالاً ونظائرا, ويجعلون لله شركاء, وليس المقصود بهؤلاء الانداد والشركاء الذين يتخذونهم من دون الله الآصنام, بل المقصود بهم القادة الظالمون والمنحرفون وكل شخص مُطاعٍ من دون الله من غير ان ياذن الله بطاعته، وهذا هو التفسير الوارد عن بعض أئمة أهل البيت (ع) في بيان المراد من الانداد، فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) انه قال لجابر بن عبد الله الانصاري: هم والله يا جابر أئمة الظلمة واشياعهم.
إذن: فالأنداد: القادة الظالمون والطغاة وأصحاب السلطة الظالمة، سواء كانوا رؤساء منحرفين ووزراء منحرفين أو مسؤولين ظالمين أو أي مجموعة أخرى ممن لم يأمر الله بطاعتهم.
والمقصود بالحب في قوله تعالى: (يحبونهم كحب الله) ليس هو الحب الداخلي القلبي الذي يتحرك في عاطفة الإنسان، بل الظاهر ان المراد بالحب هو الحب الذي يتمثل بالطاعة والاتباع والتأييد والمشاركة والاستجابة لما يريد الظالمون ولما يخططون له من دون قيد او شرط, لان ظاهر الآية هو الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياة هذه النماذج من الناس التي تتبع الظالمين وتحبهم كحب الله.
وعلى هذا الأساس يكون معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)ان هناك نماذج من الناس في المجتمع يتخذون الظالمين والمنحرفين من زعمائهم واسيادهم ورؤسائهم انداداً وامثالاً لله فيحبونهم كما يحب الإنسان الله، ويتبعونهم كما يتبع الإنسان الله، ويطيعونهم كما يطيع الإنسان الله، ويخضعون لهم من الناحية العملية كما يخضع الإنسان لله، وينفذون لهم ما يريدون وما يطلبون وما يأمرون به تماماً كما ينفذ الإنسان المؤمن أوامر الله ونواهيه.
وبذلك فإن هذه النماذج من الناس الموجودة في كل زمان ومكان يجمعون بين الله وبين الظالمين من اسيادهم وزعاماتهم, تماماً كما يحب الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات, فهم يحبون الظالمين والطغاة من الرؤساء والقيادات والزعامات كحبهم لله ويتبعونهم كما لو انهم يتبعون الله, وبذلك فهم يساوون بين هؤلاء الظالمين وبين الله في الحب والعاطفة، وفي الاتباع والطاعة.
وعندما يطيع الإنسان غير الله ممن لا يرضى الله بطاعته، بالمستوى نفسه الذي يطيع فيه الله، وعندما يستجيب لاوامر غير الله بنفس الدرجة التي يستجيب فيها لأوامر الله, معنى ذلك انه قد جعل ذلك المطاع نداً ونظيراً لله في الطاعة وفي العمل، وهذا هو الشرك الواقعي والعملي بالله، ولذلك فإن هؤلاء يقعون في الشرك من حيث لا يدرون ومن حيث لا يشعرون.
وهذه النماذج التي تطيع غير الله وتحب غير الله من الزعامات والمقامات بنفس المستوى الذي يطيع فيه الإنسان الله ،هذه النماذج تنطلق في سلوكها هذا من خلفية شهواتها ومصالحها واطماعها ومنافعها الذاتية, الكثيرون من الناس يتخذون الزعيم الفلاني والرئيس الفلاني نداً لله فيتبعونه ويطيعونه وينفذون له ما يريده مما فيه معصية لله، أملاً في أن يحصلوا منه على وظيفة او على منصب او على مال او على جاه او على اي مصلحة شخصية.
وبعض الناس يتبعون ويطيعون الاشخاص الظالمين والمنحرفين انطلاقاً من شعورهم بان هؤلاء الظالمين والمنحرفين يملكون القوة والنفوذ والسلطة في الدنيا, فيتخيلون انهم يملكون القوة المطلقة التي تهيمن على كل الامور, ويتخيلون أنهم قادرون على نجاتهم وإنقاذهم وحمايتهم ونفعهم ودفع الأخطار عنهم، فيعجبون بهم ويصبح كلُ همهم أن يعملوا على إرضائهم وعلى تنفيذ ما يريدون حتى ولو كان فيما يريدون معصية الله.
الآية الثانية والثالثة: تكشف حقيقة هؤلاء الظالمين والمنحرفين وتبين لأولئك الذين يتبعونهم ويطيعونهم في الدنيا مدى عجز هؤلاء وضعفهم وعدم قدرتهم على إنقاذ أتباعهم وتكشف أنهم لا يملكون أية قوة تستطيع تخليص اتباعهم.
هؤلاء الظالمون المنحرفون يظهرون على حقيقتهم في الآخرة، عندما يقفون ليروا العذاب الذي اعده الله لهم، فيعرفون ان القوة التي كانوا يتمتعون بها لا قيمة لها ولا اساس، وان القوة لله جميعاً، هؤلاء يقفون أمام العذاب موقف الإنسان العاجز الضعيف الذي لا يستطيع ان يدافع عن نفسه الضرر والعذاب و بطريق أولى فهو لا يستطيع ان يدفع عمن اتبعه وأطاعه في الدنيا ذلك, ولذلك فهم يتبرؤون من اتباعهم ويتهربون من مسؤوليتهم عندما يروا العذاب امامهم وهو يطال الجميع بمستوى واحد من دون تفريق بين هذا وذاك.
وتتقطع بهم الاسباب والصلات والعلاقات التي كانت تقوم على اساس المصالح والعواطف والقراباتو واصبح كل واحد يريد خلاص نفسه وإنقاذ نفسه من العذاب.
وهنا يقف التابعون الذين ارتبطوا بأولئك الظالمين وأطاعوهم في الدنيا يقف هؤلاء ليطلقوا الحسرات والتنهدات على كل المواقف والاعمال التي أطاعوا فيها أولئك الظالمين, ويتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا مرة أخرى، ليتبرؤا من الظالمين كما تبرأ الظالمون منهم، ولكنها تمنيات تضيع في الهواء, فيدخلون النار جزاءاً على اتباعهم لغير الله وإطاعتهم لغير الله, وما هم بخارجين من النار مهما برروا اعمالهم واختلقوا الاعذار.
والشيء الذي تؤكد عليه هذه الآيات:
ان الذين آمنوا أشد حباً لله، لانهم أصحاب عقل وإدراك, يفهمون ان الله هو مصدر كل شيء في هذا الوجود, هو مصدر القوة وهو مصدر العلم وهو مصدر السلطة وهو مصدر المال وهو مصدر كل الكمالات.. وأن قوة غيره لا تمثل شيئاً امام قوته، ولذلك فهو اللائق بالحب والاتباع والطاعة فهو وحده الذي تجب طاعته والاستجابة لأوامره، وأما من عداه فلا يجوز طاعته في معصية الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين