نبي الإسلام (ص) يقدّم للبشرية أنبل نموذج إنساني في مجتمع المدينة(36)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 29 أيلول/سبتمبر 2013
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3902
الرسول (ص) يؤاخي بين المهاجرين والأنصار في بناء مجتمع المدينة المنورة (36) :
العمل الثاني الذي قام به النبي (ص) بعد هجرته إلى المدينة المنورة، هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الخطوة الأولى من ناحية تنظيم المجتمع الإسلامي. فقد دعا الرسول أصحابه جميعا، من المهاجرين والأنصار، بعد خمسة أشهر، أو ثمانية أشهر، إلى التآخي فيما بينهم، وقال لهم : "تآخوا في الله أخوين أخوين". فتآخى هو مع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، حيث أخذ بيده وقال :"هذا أخي".
وتآخى كل واحد من المهاجرين مع واحد من الأنصار، فكان الرسول (ص) والإمام علي (ع) أخوين، وكان أبو بكر وخارج الخزرجي أخوين، وكان عمر وعتبان بن مالك أخوين.. وهكذا ..
مؤاخاة إنسانية يؤسسها الإسلام :
ويقول المؤرخون إن هذه المؤاخاة التي حصلت في المدينة بعد الهجرة هي المؤاخاة الثانية. وأما المؤاخاة الأولى فقد كانت في مكة المكرمة بين المهاجرين أنفسهم، حيث آخى النبي (ص) هناك، قبل الهجرة، أصحابه من قريش وعبيدهم المعتقين المحررين. فآخى مثلا بين عمه حمزة ومولاه زيد ابن حارثة، وبين أبي عبيدة ابن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة. ولقد آخى بينهم على الحق والمساواة.
وكان الهدف من هذه المؤاخاة التي حصلت في مكة هو تحطيم الاعتبار الطبقي والقبلي والاقتصادي، في ما بين المسلمين المهاجرين، إذ كان فيهم الأشراف والأغنياء والتجار. وكان فيهم البسطاء والفقراء والمساكين والعبيد المعتقين. فكان برأي الإسلام أنه لا بد من تحطيم هذه الفوارق الطبقية الاجتماعية والمعيشية بين المؤمنين، والتعبير بشكل عملي عن شكل المساواة الإسلامية إلى جانب تعميق العلاقة الايمانية بين المسلمين.
أما هدف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة إلى المدينة، فقد كان لتحقيق عدة أمور :
الأمر الأول : هو تنظيم حياة المسلمين وتوكيد وحدتهم للقضاء على التناقضات الداخلية فيما بينهم، والقائمة بين الأوس والخزرج، والقضاء على كل شبهة في أن تعود العدواة القديمة بينهما. وللقضاء أيضاً على التناقضات المحتملة والمتوقعة بين المهاجرين والأنصار. فالمهاجرون قد نزلوا ضيوفاً على الأنصار. وهم لا يرتبطون بهم بأي رابط أو علاقة يمكن أن تشدّ العرب بعضهم ببعض. والأنصار كانوا يتشكلون من قبيلتين، الأوس والخزرج، وكانت العلاقة بينهما فيها حروب وثارات قديمة. وكان الإسلام في تلك المرحلة مقبلاً على استحقاقات كبرى لبناء الدولة والمجتمع السياسي الإسلامي، ونشر الدعوة.
وكان المسلمون، وهم مجتمع ناشء وجديد، يواجهون تحديات كبرى. تحديات المشركين والمنافقين واليهود في داخل المدينة، وتحديات اليهود والمشركين في مكة وفي الجزيرة العربية بشكل عام. هذه التحديات وحجم المسؤولية التي يتحملها المسلمون لأقامة هذا الدين والدفاع عنه كانت تتطلب قبل أي شيء أن يتناسى المسلمون الأحقاد والثارات والعدوات التي كانت قائمة بينهم في الجاهلية. وأن يزيلوا الحساسيات القبلية، وأن يكون مجتمعهم كتلة واحدة متآلفة ومتماسكة ومترابطة بعد أن كانوا مجتمعات متنازعة ومتحاربة.
وبفعل هذه الأخوة فقد تحوّل المسلمون الأوائل في عهد النبي (ص) من مجتمع مفكك ومتناحر كان يعيش أبناؤه الأحقاد والحروب إلى مجتمع متماسك وموحد ذي هدف واحد ومصير مشترك. ووجهوا طاقاتهم وإمكانياتهم إلى أعداء الإسلام والدين. وكانت لهذه المؤاخة نتائج هامة، في تاريخ المواجهة مع العدو، وعلى المستوى الجهادي حيث استطاع المسلمون المتآخون تحقيق انتصارات كبرى في بدر وغزوة الخندق، وفي غيرهما من الحروب، رغم قلة العدد وصعف العتاد.
الأمر الثاني : هو علاج التفاوت الشديد في المستوى المعيشي والاقتصادي بين المهاجرين والأنصار. فقد كان الأنصار أغنياء، حيث هم في بلدهم ولم ينقطعوا عن أعمالهم وموارد رزقهم. بينما كان المهاجرون فقراء، حيث إنهم تركوا كل ما يمتلكونها وراءهم في مكة عندما هاجروا إلى المدينة. وأكثرهم كان لا يملك قوت يومه. من هنا كان لا بد من المؤاخاة. لتحقيق مبدأ المواساة والعدل الإسلامي تظهر فيه صورة عملية كيفية مواساة الأخ لأخيه.
وانطلاقا من روح الموأخاة هذه، فقد آخ الأنصار أخوانهم المهاجرين بأنفسهم وبأشدّ ما يواسي به الأخ أخاه. إذ تركت مسألة المؤاخاة إحساساً لدى الأنصار بالمسؤولية تجاه إخوانهم المهاجرين. فأخوهم على أنفسهم ووفروا لهم وسائل العمل المنتج، فعملوا إلى جانبهم بالزراعة. وتنازل الأنصار بدافع من ضميرهم ودينهم وحبهم لأخوانهم المهاجرين عن نصف ما يملكونه من ثروة وعقار وأرض من دون تردد. وعبّروا عن مبدأ المواساة أصدق تعبير. حتى قال المهاجرين فيهم :"ما رأينا مثل أنصار المدينة، لقد أحسنوا مواستنا وبذلوا الكثير وأشركونا في المهنة حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله".
الأمر الثالث : هو إيجاد البديل الأنسب للمسلمين في تلك المرحلة عمّا فقدوه من أخوة الدم والقرابة. فإن هؤلاء الذين أسلموا، وخاصة المهاجرين منهم، كانوا قد انفصلوا عن قومهم وأخوانهم بصورة حقيقية، وقد واجههم حتى أقرب الناس إليهم، بأنواع التحدي والأذى بسبب إسلامهم واتباعهم لرسول الله (ص). فصاروا وكأنهم لا عشيرة لهم ولا إخوان. وفي هذه الحالة قد يشعر بعضهم أنه قد أصبح وحيداً، بلا نصير أو عشيرة. فجاءت الأخوية الإسلامية لتسد هذا الفراغ ولتبعد عنهم الشعور بالوحدة والغربة، ولتكون البديل الأنسب عمّا فقدوه من أخوة الدم والنسب.
إن رابطة الإيمان وأخوية الإسلام تؤكد وحدة الهدف والمصير وتدعونا إلى أن لا نحب ولا نكره ولا نرضى ولا نغضب إلا لله وفي سبيل الله. وأن نكون مثل المسلمين الأولين أن ينظر كل واحد منّا للأخر كما ينظر إلى أخيه في النسب ويحس بإحساسه ويشعر بالآمه وفرحه، ويواسيه ويشاركه في السراء والضراء، على قاعدة "لا يؤمنوا أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبه لنفسه".
الشيخ علي دعموش