الرسول (ص) باهل النصارى فأثبت لغة الحوار وإثبات البرهان ..أين نحن منه اليوم؟!(63)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 28 تشرين1/أكتوير 2013
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3711
قصة المباهلة في الإسلام (63) :
بعد أن تحقق النصرُ للإسلام ولنبيه الكريم محمدِ بنِ عبد الله (ص) في أرجاء الجزيرة العربية، وفُتحت مكةُ والطائف، ودُمرتْ معاقلُ الشركِ والوثنية وظهرَ الإسلامُ قوةً عقيديةً وسياسيةً وعسكريةً في المنطقة، أخذتْ وفودُ العرب تَفدُ على رسول الله (ص) لتعلن إسلامَها وولاءَها للنبي (ص)، فوفَدَ على رسول الله (ص) ثلاثةٌ وثلاثون وفداً يمثلون قبائلَهم.
وأخذ رسولُ الله (ص) يوجه كتبَه ورسلَه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام من منطلق القوة والوثوقِ بالوعد الإلهي بالنصر المؤزر. وكان ممن وجه إليهم كتبَه أساقفةُ نجران يدعوهم فيها إلى الإسلام ويُعرفُهُم بقيمهِ ومفاهيمه وأحكامه. فرأى هؤلاءِ أن يقدموا على النبي (ص) بوفدٍ يخوضُ حواراً عقيدياً وفكرياً معه(ص). وتوجه الوفدُ فعلاً إلى المدينة المنورة يتقدمُهُم كبارُ الأساقفة.
ويروي الإمامُ الصادقُ (ع) ما عُرفَ في التاريخ الإسلامي بقصة المباهلة فيقول (ع): أن نصارى نجران لما وفَدُوا على رسول الله (ص) وكان على رأسهم الأهتمُ والعاقبُ والسيد، وحضرتْ صلواتُهُم أقبلوا يضربون الناقوس، فقال أصحابُ رسول الله (ص): يا رسولَ الله هذا.. في مسجدك؟ فقال: دعوهم. فلما فَرَغُوْا دَنَوْا من رسول الله (ص) فقالوا للنبي: إلى مَا تدعو؟ فقال (ص): إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله، وأن عيسى عبدٌ مخلوقُ يأكلُ ويشربُ ويحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحيُ على رسول الله (ص) أن قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكلُ ويشربُ ويحدث ؟ فسألهم النبيُ (ص) فقالوا: نعم، قال: فمن أبوه؟ فبُهِتُوا، وأنزل اللهُ قولَه تعالى: {إنَّ مَثَلَ عيسى عند الله كَمَثَلِ آدمَ خلقَه من تراب ثم قال له كن فيكون}. فآدمُ – باعترافكم – خُلقَ بقدرة الله من دون أب وأم وهو إنسانٌ يأكل ويشرب ويحدث وله خصائصُ البشر وصفاتُهُم، وما دام الأمرُ متصلاً بقدرة الله فإن الله قادرٌ أن يخلق عيسى من دون أبٍ كما خلق آدمَ من دون أبٍ وأم.
نصارى نجران يقرّرون الدخول في المباهلة :
ويبدو أن نصارى نجران قد دخلوا في جدالٍ حول هذا الموضوع مع النبي (ص)، ويبدو أيضاً أن النقاشَ والجدالَ وصل إلى طريق مسدود بحيثُ أغلقوا عقولَهم عن التفكير فيما قاله النبيُ (ص) عن الله سبحانه وتعالى. لذلك كما يروي الإمامُ الصادقُ (ع) نَزَلَ قولُهُ تعالى {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنَا وأنفسَكُم ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ الله على الكاذبين} آل عمران/61.
لذلك دعاهم النبيُ (ص) إلى المباهلة أي الاجتماعِ في مكانٍ ما ليتضرعوا إلى الله بأن يفضح الكاذبَ منهم ويُنزلَ عقابَه به. إذ قال لهُمُ النبيُ (ص) بعد نزول هذه الآية: باهلوني.. فإن كنتُ صادقاً أُنزِلتِ اللعنةُ عليكم، وإن كنتُ كاذباً نَزَلَتْ عليّ، فقالوا: أنصفتَ، فتواعدوا للمباهلة، فلما رَجَعُوا إلى منازلهم قال رؤساؤُهُم السيدُ والعاقبُ والأهتم: إنْ بَاهَلَنَا بقومه باهلناه فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصةً لم نُباهله، فإنه لا يَقْدَمُ إلى أهل بيته إلا وهو صادق، فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (ص) ومعه أميرُ المؤمنين عليُ بنُ أبي طالب (ع) وفاطمةُ والحسنُ والحسين (عليهم السلام). فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابنُ عمه ووصيُهُ عليُ بنُ أبي طالب (ع)، وهذه ابنتُهُ فاطمة (ع)، وهذان إبناه الحسنُ والحسين (ع)، فخافوا وقالوا لرسول الله (ص) نعطيك الرضا فأعفنا من المباهلة، فصالحهم رسولُ الله (ص) على الجزية وانصرفوا.
هذه هي قِصةُ المباهلة، والذي نستوحيه من هذه القصة عدةُ أمور:
أولاً: إن النبي (ص) أَنزلَ وفدَ النصارى في مسجده حيث لم يكن لديه دارٌ خاصةٌ بالضيافة، وهذا يعني أنه لا مانع من أن يدخلَ غيرُ المسلمين إلى المسجد، حتى أن النبي (ص) وَمَنْ بَعدَهُ كانوا يستقبلون الوفودَ في المسجد حتى ولو كانوا مشركين.
ونلاحظُ في هذا المجال أيضاً أنهم عندما جاء وقتُ صلاتهم ضربوا الناقوس في المسجد فاستنكر المسلمون ذلك ونقلوا الأمرَ للنبي (ص) فقال: دعوهم ليفعلوا ما يشاءون من صلاتهم.
ثانياً: إن في تعبير الآية المباركة (آيةِ المباهلة) عن الحسن والحسين (ع) بكلمة (أبناءَنا) أي أبناءَ الرسول (ص) وعن فاطمة (ع) بكلمة (نساءَنا) وعن علي (ع) بكلمة (أنفسَنَا) إن في ذلك دَلاَلةً بالغةً على منزلة ومكانةِ أهل البيت (ع) في الإسلام والعقيدة. وقال الزمخشري في تفسير آية المباهلة: {وقدَّمَهُم في الذكر على الأنفس لينبه إلى لطف مكانهم وقربِ منزلتهم، وليُؤذِنَ بأنهم مُقدمونَ على الأنفس مُفْدَونَ بها وفيه دليلٌ لا شيءَ أقوى منه على فضل أصحابِ الكساء}.
ثالثاً: إن ابن البنت يُطلقُ عليه ابنٌ كما هي دَلاَلَةُ آيةِ المباهلة، حيث إنه لما نزل قولُهُ تعالى {فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءَكم} ما كان من النبي (ص) إلا أن دعا الحسنَ والحسين (ع) وأخرجهما معه إلى المباهلة وهما ابنا ابنته. ثم إن التعبيرَ عن عليٍ (ع) بأنه نفسُ رسولِ الله (ص) يشير إلى أن شخصية علي (ع) قد اندمجت بشخصية النبي (ص) علماً وأخلاقاً وزهداً وشجاعةً بحيثُ كان (ع) يُمثلُ رسولَ الله (ص) في ذاته وشخصيته.
رابعاً: ما نستنتجُهُ من قِصة المباهلة أيضاً هو الحوارُ الإسلاميُ المسيحي، لأن النصارى الذين جاءوا إلى النبي (ص) في قضية المباهلة على الرَغم من أنهم كانوا يحملون عقيدةً غيرَ عقيدته لا سيما بالنسبة إلى السيد المسيح (ع) جاءوا إلى مركز النبوة ونَزَلوا في المسجد وأعطاهُمُ النبيُ (ص) كلَ الحرية في أن يطرحوا فكرهم وعقيدتَهم ولم يمارس أيَ ضغطٍ عليهم بل كان يواجهُهُم بالحجة والبرهان كما نفهم من رده عليهم بالنسبة لعيسى (ع) بتمثيله بآدم (ع).
وهذه نقطةٌ مُهمةٌ تدلُ على أنه لا بد من أن ننطلق لنمارس الحوارَ مع أهل الكتاب ومع كل الناس الذين نختلفُ معهم في الفكر سواءٌ كان الخلافُ دينياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو غير ذلك. فالحوارُ الهادفُ هو الذي يحترمُ فيه المحاورُ مُحاورَه من دون أن يتخذَ اختلافُهُ معه أسلوبَ السبابِ والشتائم والإساءةِ إلى الذات بل يردُ الحُجَّةَ بالحُجة والفكرةَ بالفكرة، وهذا هو شأنُ الإسلام في كل ما تحركَ فيه من أساليب الحوار.
الشيخ علي دعموش