يهود بني قينقاع والمسلمون في المدينة حكاية "تعايش غادر"(56)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 21 تشرين1/أكتوير 2013
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4203
الإسلام في مواجهة اليهود- غزوة بني قينقاع (56)
في هذا المقال وما بعده نتحدث عن الحروب الشاملة التي خاضها النبيُ (ص) والمسلمون معه ضد اليهود الذين تآمروا على الإسلام ونقضوا عهودَهم ومواثيقَهم. فمن المعلوم أن ممارساتِ اليهود المعاديةَ والتخريبيةَ قد هيأت الجو للتخلص بالتدريج وعلى مراحل من بغيهم وإفسادهم ومكرهم وتآمرهم، وكان أولُ ما قام به النبي (ص) هو مواجهةَ قبيلةِ بني قينقاع اليهودية وإعلانَ الحرب عليهم لإجلائهم عن المدينة المنورة.
والسببُ الذي حمل الرسول (ص) على البدء بإجلاء بني قينقاع من دون سائر اليهود هو أنهم كانوا يسكنون داخل المدينة المنورة وفي حي من أحيائها، وكانوا أولَ من غدر وخان وتآمر على الإسلام والمسلمين من اليهود، فكان لا بد للنبي (ص) من أن يطهر المدينةَ المنورة عاصمةَ الدولة الإسلامية من هذا العدو الداخلي الذي يطعن في الظهر ويحوك المؤامرات، ويرتكب الخيانات. ويذكر المؤرخون في هذا الصدد: أن بني قينقاع كانوا قد عاهدوا النبي (ص) على المسالمة وعدمِ معاونة ومساعدة أعدائه، فلما كانت حربُ بدر أظهروا البغي والحسد، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي (ص)، وكانوا أولَ من استجاب لطلب قريش في نصب العِدَاء للمسلمين والغدرِ بهم.
وقد صعّدوا من تحديهم للمسلمين عندما دخلت امرأةٌ مسلمة سوق الصاغة في المدينة التي كانت تحت سيطرتهم، فجلست عند صائغ منهم لأجل حُليٍّ لها، فاجتمع عليها عددٌ من اليهود وأرادوها أن تكشف عن وجهها.. فأبتْ، فعمد يهوديٌ حاقدٌ من خلفها ومن حيث لا تعلم فعقد طرفَ ثوبها إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتُها فضحكوا منها وسخروا، فصاحت المرأة تستغيث بالمسلمين، فوثب رجل من المسلمين على من فعل ذلك بالمرأة فقتله.
اليهود يعتدون على عرض المسلمين :
فهجم اليهودُ على المسلم فقتلوه، فاستنجد أهلُ المسلم بالمسلمين ووقعَ الشرُ بينهم وبين يهودِ بني قينقاع ، وبعدما علم النبي (ص) بذلك جمع اليهود في سوقهم، وحذَّرَهم من الإساءة للمسلمين وطلبَ منهم أن يكفوا عن الأذى والفساد ويلتزموا بالعهد والاتفاقِ الموقعِ بينهم وبينه أو يُنزِلَ بهم ما أنزلَه بقريش في حرب بدر، وكان مما قاله لهم: "يا معشر اليهود احذروا من الله مثلَ ما نزل بقريش من النَّقِمَة وأسلموا، فإنكم قد عَرَفتم أني نبيٌ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهدِ الله إليكم". فاستخفوا بوعيده وكان موقفُهُم من هذا الإنذار أن أجابوا الرسول بكل جرأة وتبجح كما هي عادتُهُم في كل زمان: "يا محمد، لا يغرنَّك أنك لقيتَ قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنَّا نحن الناس، وسترى منا ما لم تَرَهُ من غيرنا".
ويظهر من هذا الرد أن بني قينقاع كانوا يعتمدون على مساعدة حلفائهم من الخزرج، حيث كان هناك تحالفٌ بين الطرفين في الجاهلية كما أنهم كانوا يعتمدون على خبرتهم العسكرية وشجاعتهم وكثرتِهم ومعرفتِهم بالحرب، إذ لا يُتصورُ أن قبيلةً صغيرةً كقبيلة بني قينقاع تجرؤ على إعلان الحرب ضد أغلب قبائلِ يثربَ المسلمة إذا كانت لا تملك شيئاً من مقومات النصر المحتمل، ولكنَّ كثرتَهُم وخبرتَهُمُ العسكرية لم تغنِ عنهم شيئاً، كما أن حلفائَهم الخزرج خذلوهم فلم يتحركوا لنجدتهم عندما حاصرهم النبيُ (ص) ولم يفعلوا لهم شيئاً.
ويقول المؤرخون: إنه بعد أن اتخذ اليهود هذا الموقفَ الذي أعلنوا فيه الحرب على المسلمين أنزل اللهُ على نبيه (ص) قوله تعالى: {قل للذين كفروا ستُغلبُون وتُحشرُون إلى جهنمَ وبئس المِهَاد/قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا ، فئةٌ تقاتلُ في سبيل الله، وأخرى كافرةٌ يرونهم مِثْلَيْهم رأيَ العين واللهُ يؤيدُ بنصره من يشاءُ إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار} آل عمران/12 – 13. كما أنزل اللهُ قولَه تعالى: {وإمَّا تخافنَّ من قوم خيانةً فانْبِذْ إليهم على سواء إن الله لا يحبُّ الخائنين} الأنفال/58.
ولذلك لم يبق أمام النبي (ص) إلا أن يقاتلهم، فسار إليهم بجيش كان عدده نحو سبعِمئةِ مقاتل وسلم الرايةَ لعلي بن أبي طالب (ع)، وحاصرَهم في حصونهم خمسَ عَشْرَةَ ليلةً أشدَّ حصار، فقذف اللهُ في قلوبهم الخوف والرعب، فاستسلموا وطلبوا من النبي (ص) أن يخليَ سبيلَهم وينفيَهُم من المدينة على أن يكون لهم نساؤُهُم وأولادُهُم، وله أموالُهُم وأسلحتُهُم، فقبل النبيُ (ص) منهم ذلك فأفرج عن نسائِهم وأخذَ أموالَهم وأسلحتَهم ووزعَهَا بين المسلمين، وطردَهم من المدينة إلى منطقة أذرِعَات بالشام. ويقال: إنه لم تدُرْ عليهمُ السنةُ حتى هَلَكوا هناك جميعاً.
وفي نص آخر: إنهم بعد أن استسلموا أُنزلوا من حصونهم وكُتفوا وأراد النبيُ (ص) قتلهم فتدخل عبدُ الله بنُ أبي رئيسُ المنافقين، وكان حليفاً لهم، وأصرَّ على النبي (ص) أن يتركهم، فاستجابَ النبيُ (ص) إلى طلبهم وأجلاَهم عن المدينة بعد أن صادر أموالَهم وأسلحتَهم.
وعلى أي حال فإننا نقف مع بعض أهداف حرب بني قينقاع ونتائِجِها لنسجلَ الأمورَ التالية:
أولاً: إن حرب المسلمين لبني قينقاع وهم أشجعُ اليهود وأكثرُهُم مالاً وقوةً ونفوذاً والقضاءَ عليهم، معناه: أنه من السهل على المسلمين القضاءُ على الآخرين من الأعداء ممن هم أقلُ منهم قوةً وعدداً ومالاً، وكذلك فإن المسلمين إذا رأوا أنهم قد استطاعوا القضاءَ على أشجع اليهود وأكثرِهم قوةً فإنهم سوف يتشجعون للقضاء على من سواهم من الأعداء ولا يبقى مجالٌ للخوف ولا للتردد. كما أن ذلك معناه: أن اليهود مهما امتلكوا من القوة والنفوذ والإمكاناتِ المادية فإنهم سوف ينهارون أمام إرادة المسلمين وعزمِهم وجهادِهم عندما يعتمدُ المسلمون خِيار الجهاد والمقاومة ويوجهون ضرباتِهم المحكمةَ إلى مواقع هذا العدو ونقاط ضعفه.
ونحن نعتقد أن الصهاينةَ اليوم على الرُغم من تفوقهم العسكري على كثير من الدول العربية والاسلامية وحركات المقاومة إلا أن نقطة ضعفهم المركزية هي في الأمن، فإذا استطاعت المقاومة اليوم أن تسلب الأمن من حياة الصهاينة في فلسطين وفي المستعمرات والمستوطنات والبؤر الصهيونية فلن يصمدوا كثيراً وسيرحلون عاجلاً عن أرض فلسطين وعن بقية الأراضي العربية المحتلة.هذا اولاً.
ثانياً: إن تحالف عبدِ الله بنِ أبي مع اليهود وإصرارَه على النبي (ص) لكي يُخليَ سبيلَ بني قينقاع يدل على عمق العلاقة التي كانت تربط المنافقين باليهود وعلى أهدافهم المشتركةِ في مواجهة الإسلام والمسلمين.
ثالثاً: إن استجابة النبي (ص) لابن أُبي في إخلاء سبيل بني قينقاع، كانت تهدفُ إلى الحفاظ على الجبهة الداخلية من التصدع، ولولا ذلك فلربما كان الأمرُ بين المسلمين والمنافقين سينتهي إلى النزاعات المكشوفة والمواجهاتِ العلنية، الأمرُ الذي لم يكن لمصلحة الإسلام والمسلمين في تلك الرحلة. فإن الإبقاء على العلاقات الحسنة مع المنافقين في تلك الظروف كان أمراً ضرورياً لكسب أكبرِ عددٍ منهم في المستقبل وكذلك من أبنائهم، كما أن إجلاء بني قينقاع كما يعتبر ضربةً نفسيةً ومعنويةً لغيرهم من اليهود في المنطقة كذلك يعتبر إضعافاً للمنافقين المتحالفين معهم.
الشيخ علي دعموش