شروط قبول التوبة (17)
- المجموعة: قرآنيات
- 17 نيسان/أبريل 2014
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4970
الانسان الذي يرتكب الذنب عن جهل وغفلة وعدم وعي نتيجة سيطرة اهوائه وشهواته تقبل توبته. واما الانسان الذي يرتكب الذنب من دون ان تكون هناك جهالة ،وغلبة للشهوة،وانما يرتكبه عناداً للحق وانكاراً لحكم الله،بمعنى انه يعرف ان العمل الذي يفعله هو ذنب ومعصية ولكنه مع ذلك يفعله عمداً وعناداً و تحدياً وتمرداً على الله وعلى احكامه،ان ارتكاب مثل هذا الذنب ينبيء عن الكفر ،فلا تقبل التوبة منه، إلا أن يتخلى عن عناده وعدائه وانكاره وتمرده على الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
( انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولءك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً ) .النساء/17.
ذكرنا في الحلقة الماضية ان باب التوبة مفتوح امام الجميع من دون استثناء وان التوبة تعني : ان يعود الانسان الى خط الله ،ويندم على المعصية ،ويقرر عدم العودة اليها نهائياً.
وفي هذه الاية يشير الله سبحانه الى شروط قبول التوبة ،فالاية تذكر شرطين أساسين من شروط قبول التوية.
الشرط الاول : ان تكون التوبة عن ذنب صدر من الانسان بجهالة.
الشرط الثاني : ان تكون التوبة سريعة وفورية وليس بعد فاصل زمني بعيد عن المعصية.
فيما يعود للشرط الأول تقول الآية : (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) اي التوبة التي وعد الله عباده قبولها منهم والتي يكون قبولها حقاً من حقوقهم هي التوبة من الاعمال والذنوب التي تصدر عن جهالة من الانسان،فالذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون هؤلاء تقبل توبتهم وعلى الله ان يقبل توبتهم لان الله وعد عباده ان يقبل توبة التائب منهم والله لا يخلف الميعاد ،وهذا معنى ( إنما التوبة على الله).
ويجب هنا أن نعرف ماذا تعني كلمة الجهالة الواردة في الآية؟ فهل تعني الجهل وعدم المعرفة بالمعصية؟ام هي الجهل وعدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟؟
والجواب :إن الذي يستفاد من القرائن أن المراد بكلمة (جهالة ) في الآية هنا هو الجهل وعدم المعرفة بالآثار السيئة والنتائج السلبية التي تترتب على الذنوب والمعاصي ،بحيث تصدر الذنوب والمعاصي من الانسان نتيجة طغيان غرائزه وسيطرة أهوائه وشهواته وغلبتها على صوت العقل والايمان ،من دون وعي وفهم لنتائج هذه المعاصي ،كأن تتغلب وتسيطر مثلاً الغريزة الجنسية على الشخص وينظر لغير زوجته نظرة شهوانية،فانه في هذه الحالة يكون قد ارتكب ذنباً بجهالة ،فهو يعلم ان النظر لغير الزوجة حرام ومعصية ، ولكن شهواته تسيطر عليه،واهوائه تتغلب على عقله وإيمانه،فيقع تحت تأثير غرائزه وشهواته ،وينظر ويرتكب المعصية،من غير ادراك للنتائج السلبية لهذه المعصية،ولكن عندما تهدء غرائزه وشهواته يعود الى نفسه ويدرك انه ارتكب عملاً قبيحاً ، فالذين يعملون السوء ويرتكبون المعاصي بهذا المعنى ،اي نتيجة طغيان غرائزهم واهوائهم وشهواتهم ،هؤلاء يقال لهم في التعبير القرأني (اللذين يعملون السوء بجهالة) وهؤلاء تقبل توبتهم اذا تابوا وندموا على أعمالهم.
إذن الانسان الذي يرتكب الذنب عن جهل وغفلة وعدم وعي نتيجة سيطرة اهوائه وشهواته تقبل توبته. واما الانسان الذي يرتكب الذنب من دون ان تكون هناك جهالة ،وغلبة للشهوة،وانما يرتكبه عناداً للحق وانكاراً لحكم الله،بمعنى انه يعرف ان العمل الذي يفعله هو ذنب ومعصية ولكنه مع ذلك يفعله عمداً وعناداً و تحدياً وتمرداً على الله وعلى احكامه،ان ارتكاب مثل هذا الذنب ينبيء عن الكفر ،فلا تقبل التوبة منه، إلا أن يتخلى عن عناده وعدائه وانكاره وتمرده على الله.
فمثلاً يستغيب فلاناً من الناس وهو يعلم ان الغيبة حرام ،فاذا طالبته بذلك وقلت له لا تستغيب يبرر لك هذا الذنب ويقول لك : هذه الصفة التي قلتها موجودة في ذلك الشخص وهو يحب ان يستغاب، وهذا عمل جائز ،فمثل هذا الانسان يتعمد المعصية ويبررها ويصر على ارتكابها ،ولهذا فلا تقبل توبته لانه يرتكب الذنب عناداً ولا يعتبر نفسه مذنباً حتى يتوب ويندم على فعله.
هناك كثيرون من الاشخاص من هذا النمط يرتكبون الذنوب عن عمد واصرار ويتمردون على الله باعمال يعلمون انها محرمة ، الاية تحذر هؤلاء تحذر ان يصبح الانسان لجوجاً ومعانداً تغمره العصبية الفردية او الجماعية ويرتكب الذنوب عناداً وليس عن جهالة،تحذر هؤلاء من عدم قبول توبتهم ،وتوحي بان على الانسان ان لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله لان الله انما يقبل توبة المذنب العاصي اذا لم يرتكب المعصية استكباراً على الله وتمرداًعلى احكامه،وانما يرتكبها عن جهالة وغلبة شهوته وسيطرة اهوائه.
وفي الحقيقة إن هذه الاية تبين نفس الحقيقة التي يذكرها الامام زين العابدين (ع) في بيان واضح في دعاء أبي حمزة الثمالي إذ يقول (ع) : (الهي لم اعصك حين عصيتك وانا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ،ولا لعقوبتك متعرض ولا لوعيدك متهاون ،لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي ).
فالامام (ع) يعلمنا في هذا الدعاء كيف نقف بين يدي الله لنتوب اليه من ذنوبنا ،ان نقف بين يدي الله لنقول: إن ذنوبنا صدرت منا نتيجة غلبة اهوائنا وشهواتنا وغفلتنا وجهالتنا فتقبل يا رب منا التوبة ،وليس نتيجة انكارنا واستخفافنا باحكامك واومرك ولا نتيجة تهاوننا بعقوبتك ووعيدك حتى ترفض توبتنا ورجوعنا اليك.
هذا كله فيما يتعلق بالشرط الاول لقبول التوبة.
واما الشرط الثاني لقبول التوبة فالاية تقول : (ثم يتوبون من قريب ) وقد وقع كلام بين المفسرين في المقصود من كلمة (قريب) في الاية.
فقد ذهب كثيرون الى ان معناه التوبة قبل ان تظهر علامات الموت، فحتى تقبل التوبة من الانسان العاصي لا بد ان تكون توبته من قريب اي قبل مجيء الموت وظهور علاماته ومؤشراته ،لأن التوبة لا تقبل من الانسان اذا تاب وهو على فراش الموت .
ولكن بعض المفسرين ذهب الى تفسير كلمة (قريب) بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون معنى الآية ان التوبة تقبل من الذين يعملون السوء بجهالة ،ومن الذين يتوبون بعد صدور المعصية منهم فوراً ويندمون على فعلها بسرعة وقبل مرور فاصل زمني طويل ،لان التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسب المعصية من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي اثر منها في القلب ، ولا يمكن هذا الا اذا تاب الانسان وندم قبل ان تتجذر المعصية في كيانه وقبل ان تتعمق اثارها في وجوده، لانه في غير هذه الصورة ستبقى اثار المعصية في زوايا روحه ،وتعشش في خلايا قلبه ويصبح من الصعب ازالتها .
فالتوبة الكاملة التي يقبلها الله هي التوبة التي تتحقق بعد وقوع المعصية فوراً وفي اقرب وقت .
اما التوبة التي تتحقق بعد تسويف ومماطلة وتأخير وفاصل زمني بعيد، فليس على الله ان يقبل هذه التوبة واذا قبل الله هذه التوبة فتفضلاً منه وليس حقاً واجباً عليه.
اذن فالاية توحي بأن على الانسان ان يسارع الى التوبة فور صدور المعصية منه ، وتحذره من التسويف والتأخير لئلا تتعرض توبته الى خطر الرفض وعدم القبول من الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الاساس فاذا توفر هذان الشرطان في توبة العاصي ،بان كانت توبته من ذنب ارتكبه بجهالة وليس عن عناد واستكبار ،وكانت توبته سريعة وفورية وليس بعد فاصل زمني طويل من حصول المعصية .. اذا تحقق ذلك فان النتيجة هي ما يقوله عز وجل في المقطع الاخير من الاية (فاولئك يتوب الله عليهم ) اي يقبل الله توبتهم ويغفر لهم وتشملهم الرحمة الالهية . ثم تختم الاية بقوله تعالى (وكان الله عليماً حكيماً ) وانما قال تعالى (وكان الله عليماً حكيماً) ولم يقل : (وكان الله غفورا رحيما) مع انه كان هو المناسب حسب جو الاية .
للدلالة على ان فتح باب التوبة امام المذنبين انما هو لعلمه سبحانه وتعالى باحوال عباده وما قد يؤدي اليه ضعفهم وحالتهم من ارتكاب الذنوب ، ولحكمته التي تقتضي ان يضع لهم ما يحتاجون اليه لاصلاح امورهم، وهو لعلمه وحكمته لا تغره ظواهر احوال الناس ولا تمرر عليه اساليب المكر والخديعة لانه مطلع على ما في القلوب وعالم بكل شؤون الناس واوضاعهم واحوالهم فعلى الانسان التائب ان يتوب حق التوبة وان يتوب توبة صادقة كاملة حتى يتقبل الله توبته ويستجيب له حق الاجابة .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .