الصفحة الرئيسية
المسلمون لم يحاربوا في تبوك ورغم ذلك انتصروا ..!(61)
- 26 تشرين1/أكتوير 2013
- الزيارات: 3414
المواجهة بين الإسلام والجبهة البيزنطية (2) - (61)
غزوة تبوك (1)
بعد عودة الرسول الأعظم (ص) إلى المدينة المنورة في أواخر السنة الثامنةِ الهجرية في أعقاب فتح مكة وانتصارهِ الكبير في حنين، بلغته أنباءٌ عن تحركات عسكرية خطيرة يعتزم الرومان وحلفاؤهم من القبائل العربية القيامَ بها ضد الإسلام والمسلمين.
وقد قامت هذه القبائل فعلاً بإرسال طلائعها إلى منطقة البلقاء على حدود الحجاز لاستكشاف المنطقة استعداداً لحرب واقعة. فقرر النبي (ص) أن يتصدى لهم في إطار الغزوة التي عُرفت بغزوة تبوك.
وفي معظم الغزوات والحروب كان النبي (ص) لا يعلنُ هدفَه العسكري ولا يكشفُ عنه زيادةً في الكتمان والسرية، بل إنه كان يعلن عن أهدافٍ غيرِ تلك التي يقصدها لتضليل العدو، أما في غزوة تبوك فقد كشف النبي (ص) عن هدفه للناس لبعد السفر وكثرةِ عديدِ العدو ليتأهبَ الناسُ لتلك المواجهة ويأخذوا استعداداتِهم الكاملة.
فأرسلَ النبي(ص) إلى القبائل المسلمة في مختلِفِ المناطق يُعلمُهُم بما عزم عليه، ويستنهضُهُم للجهاد معه، فأجابوا دعوته إلا المنافقين فإنهم راحوا يختلقون الأعذارَ الواهية حتى لا يخرجوا لقتال الروم، وقد حكى القرآنُ عنهم ذلك فقال تعالى: {وقالوا لا تنفِرُوا في الحر قل نارُ جهنمَ أشدُّ حراً لو كانوا يفقهون} التوبة/81. وتمادى المنافقون في موقفهم فلم يكتفوا بتخلفهم عن الجهاد بل راحوا يثبطون الناس عنه، ويحرضون على التخاذل والتخلف عن اللحاق بالنبي (ص) والخروجِ معه. وقد اجتمعوا لهذه الغاية في بيت أحدِ اليهود، فعلم النبي (ص) بهم فحرقَ عليهمُ الدارَ التي كانوا فيها، وكانوا عبرةً لغيرهم.
استكملَ النبيُ (ص) تجهيزَ جيشه وعهد الى علي (ع) إدارةَ المدينة وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكانت هذه هي المرةُ الوحيدة التي لم يشترك فيها عليٌ (ع) في حرب يخوضها النبيُ (ص) ضد أعدائه.
وبعد أن أتمَّ النبيُ (ص) كلَ التحضيرات لحرب تبوك، انطلق (ص) في رجب من السنة التاسعةِ للهجرة بأكبر جيش عَرَفَهُ تاريخُ الإسلام إلى ذلك الحين حيث قيل إن عدد جيش المسلمين بلغ ثلاثين ألفاً تصحبُهُم عشرةُ آلافِ فرس.
المسلمون يتوجهون إلى الحرب :
بدأ المسلمون مسيرهم نحو تبوك وقطعوا خلاله آلافَ الأميال وعانوا أثناءَهُ آلامَ العطشِ والجوعِ والحرِ وقلةِ وسائلِ النقل وبُعدِ الطريق حتى انتهى بهم المطافُ إلى تبوك شماليَّ الحجاز، ويبدو أن الرومان وحلفاءَهم سمعوا أنباءَ هذا الجيش الكبير وقدرتَه على اجتياز المصاعب وإصرارَه على جهاد الأعداء، وقدروا أنه لو انتصرَ في هذه المعركة فسوف لا يقفُ عند حدٍّ، وتاليا قد تتعرضُ مواقعُهُم للخطر، فآثروا الانسحابَ إلى داخل بلاد الشام عبرَ أراضي الأردن وفلسطين، وربما كانوا يهدفون من ذلك في الوقت ذاته إلى جر المسلمين إلى الداخل والانقضاضِ عليهم هناك، إلا أن النبي (ص) لم يتح لهم تحقيقَ هدفِهم هذا، وقررَ عدمَ التوغلِ إلى الداخل، وعَسكرَ في تبوك جاعلاً إياها آخرَ نُقطةٍ في توغله شَمَالاً.
بقي النبي (ص) في تبوك نحو عشرين يوماً يراقب تحركات الروم من دون أن يقاتل أحداً. وقد استغل النبي (ص) وجودَه في تبوك للاتصال بزعماء القبائل النصرانية المنتشرةِ في المنطقة الشمالية الحدودية، حيث التقى ببعض هذه القبائل وعقد معهم معاهداتِ صلحٍ وتعاون، واستطاع بذلك قَطْعَ ولائِهم للدولة البيزنطية المعادية للإسلام والمسلمين وحوَّلَهم إلى مواطنين أو حلفاءَ للدولة الإسلامية وهو الهدفُ الذي كان يسعى النبيُ (ص) إلى تحقيقه منذ بدء صراعه مع الروم.
وبعد عشرين ليلةً قضاها النبيُ (ص) وجيشُهُ في تبوك من دون قتال، عاد إلى المدينة المنورة بعد أن حقق بحركته الصعبة تلك انتصاراً على الجبهة البيزنطية النصرانية لا يقلُ أهميةً عن انتصاراته الحاسمة على جبهات الوثنية واليهودية.
وهنا نذكر أهمَ ملامحِ هذا الانتصار ضمن الأمور التالية:
أولاً: كَسَبَ النبيُ (ص) في تبوك إلى جانبه عدداً من القبائل القاطنةِ في جنوب الشام على الحدود مع الحجاز، واستطاع أن يُقنِعَها بقطع علاقاتِها مع الدولة البيزنطية الرومانيةِ المعادية، وحصلَ منها على عهدٍ بأن لا تتعاونَ مع أحدٍ ضده ولا تجعلَ من بلدانها مركزاً للعدوان عليه وعلى الحجاز، وبذلك ضَمِنَ النبيُ (ص) أمنَ المسلمين وحدودَ دولتهم.
ثانياً: الانتصارُ الأهمُ الذي حققه النبيُ (ص) في هذه الغزوة غزوةِ تبوك هو أن استجابة الرسول (ص) لتحدي الروم، وتقدُّمَه لقتالهم، وانسحابَهُم من طريقه وانتظارَهُ إياهم قرابةَ عشرين يوماً من دون أن يحركوا ساكناً، جاء ضربةً قاسيةً للسيادة البيزنطية في بلاد الشام، وإضعافاً لمركزها وهيمنتِها على القبائل التي تعيش هناك، وكسراً لجدار الخوف من القوة البيزنطية، وهو انتصارٌ نفسيٌ حاسم مكَّنَ أهاليَ البلاد بعد سنين قليلةٍ من تجاوز ولائِهم القديم والانطلاقِ لضرب البيزنطيين وإلحاقِ الهزائم بهم وطردِهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها.
ثالثاً: أثمرت غزوةُ تبوك في صعود سُمعةِ المسلمين ومكانتِهم وهيبتِهم داخلَ الحجاز وخارجَها بحيث أن القبائل التي كانت تتأرجحُ بين تأييد الروم أو تأييدِ غيرِهم شعرتْ فعلاً بمدى قوةِ المسلمين وقوةِ الدولةِ الجديدة وامتدادِ نفوذِها حتى إلى قلب الديار التي كان أهلُها يعملون لمصلحة الروم. وقد بادرتْ تلك القبائلُ إلى حسم خِيارها وأخذتْ تتهافتُ على رسول الله (ص) في المدينة بعد رجوعه من تبوك، خاضعةً مذعنةً معلنةً إسلامَهَا وتأييدَهَا للمسلمين حتى سُميَّ ذلك العام أي العامُ التاسعُ للهجرة بعام الوفود.
رابعاً: إن غزوة تبوك تمثلُ خطوةً من خطوات حركةِ المسلمين باتجاه الخارج، وتخطِّياً لنطاق العرب وجزيرتِهم إلى العالم، وبادرةً متقدمةً مهدتِ الطريقَ لحركة الفتوحاتِ الإسلامية التي شهدتها المنطقة في العصور التاليةِ لعصر النبي (ص).
الشيخ علي دعموش