من لا تقبل توبته (18)
- المجموعة: قرآنيات
- 18 نيسان/أبريل 2014
- اسرة التحرير
- الزيارات: 6492
بعض العصاة يندمون ويتوبون عندما يشاهدون العذاب الالهي في الاخرة ولكنهم يتندمون في الوقت الذي لا ينفع فيه الندم، فقد حدثنا الله عن موقف المجرمين يوم القيامة في سورة السجدة حيث يقول تعالى : (ولو ترى اذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون )الاية 12.
بسم الله الرحمن الرحيم
"انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال اني تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار اولئك أعتدنا لهم عذاباً اليماً.النساء 17-18.
تقدم الكلام حول الاية الاولى وقلنا انها تشير الى شروط قبول التوبة، وان التوبة انما تقبل من اولئك الذين يرتكبون المعاصي نتيجة غفلتهم وسيطرة اهوائهم وشهواتهم ، ومن اولئك الذين يتوبون من ذنوبهم فوراً وسريعاً وليس بعد فاصل زمني طويل.
واما الاية الثانية فانها تشير الى اولئك الذين لا تقبل توبتهم، وهي تصنفهم الى طائفتين ايضاَ، فهناك طائفتان من الناس لا تقبل توبتهم بمعنى انه لا جدوى من توبتهم :
الطائفة الاولى : اولئك الذين يعملون السيئات ويرتكبون المعاصي ولا يتوبون الا بعد عروض الموت عليهم، فاذا قدم الموت على احدهم واصبح في حالة الاحتضار على فراش الموت قال: اني تبت الان وندمت على ما فعلته من الذنوب والمعاصي، فمثل هذا الشخص لا تقبل توبته في هذه الحالة ولا جدوى من توبته ولا أثر لها.
الاية تقول : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال اني تبت الان" اي لا تقبل توبة الذين يعملون السيئات ويستمرون في فعل المعاصي والذنوب الى اللحظة التي يقدم الموت عليهم فاذا قدم الموت عليهم واصبحوا في حالة الاحتضار وانكشفت امامهم الحقائق قال واحدهم اني تبت الان.
والسبب في عدم قبول هذا النوع من التوبة واضح ،لأن الانسان عند الاحتضار وفي حضرة الموت تنكشف له الحجب والاستار فيرى ويشاهد ما لم يكن يراه ويشاهده من قبل ،فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر ويشاهد بعينيه نتائج اعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها عن حقيقة الموت وجزاء الاعمال صفة محسوسة، وفي هذه الحالة فانه من الطبيعي ان يندم كل مجرم على جرمه وافعاله السيئة ويفر منها فرار الذي يشاهد ألسنة النيران تقترب من جسمه ، ولهذا نقرأ في القران الكريم ان ابواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض المذنبين والمفسدين الذين كانوا يبادرون الى التوبة في حالات الشدة وعند ظهور بوادر العذاب الدنيوي وعندما كانوا يواجهون مخاطر ذنوبهم وأعمالهم ، فمثلاً نقرأ قول الله تعالى فيما يحدثنا عن فرعون : "حتى اذا ادركه الغرق قال : آمنت انه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل ،وانا من المسلمين ،الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" يونس 90-91.
فالله يحدثنا في هذه الاية عن فرعون الطاغية والمستكبر والمفسد في الارض يحدثنا عن موقفه عندما واجه خطر الغرق والموت عندما كان يطارد موسى وقومه ويلاحقهم ،وكيف انه سارع بعد ان شاهد بأم عينيه بوادر العذاب والهلاك والموت غرقاً كيف انه سارع الى اعلان التوبة والايمان والاسلام ،ولكن الله لم يقبل توبته لانه لم يقل "امنت .. وانا من المسلمين" الا بعد ان راى مخاطر اعماله ونتائج ذنوبه واستكباره ماثلةً امامه،فهو لم يعلن هذا الموقف ،موقف الايمان والتوبة الا بعد ان كان مجبرا على ذلك ولذلك فان الله يخاطبه ويقول : "الان وقد عصيت قبل كنت من المفسدين " الان تعلن ايمانك وتوبتك وفي مثل هذه الحالة التي لا جدوى فيها من التوبة ولا أثر فيها للايمان بعد كل ذلك التاريخ من الجريمة والفساد.
وهكذا يستفاد من بعض الايات القرانية ان بعض العصاة يندمون ويتوبون عندما يشاهدون العذاب الالهي في الاخرة ولكنهم يتندمون في الوقت الذي لا ينفع فيه الندم، فقد حدثنا الله عن موقف المجرمين يوم القيامة في سورة السجدة حيث يقول تعالى : "ولو ترى اذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون " الاية 12.
فهؤلاء ندموا بعد ان ابصروا بأعينهم العذاب الالهي يوم القيامة ،فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت وتوبتهم لا تقبل منهم في هذه الحالة ،لان اليأس من الحياة الدنيا وهول يوم القيامة وهول العذاب ،هما اللذان اجبراهم على ان يندموا على اعمالهم ويقرروا الرجوع الى ربهم من أجل ان يعملوا صالحاً.
ان هؤلاء اشبه ما يكونون بالمجرمين الذين اذا شاهدوا اعواد المشنقة واحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وافعالهم السيئة ومن الواضح ان مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة ولا مفخرة ولا تكاملاً ولهذا لا يكون لها اي اثر.
هذا كله عن الطائفة الاولى الذين لا تقبل توبتهم وهم من يتوبون عندما تظهر امام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم اثاره وعلاماته.
وأما الطائفة الثانية من الذين لا تقبل توبتهم : فهم اولئك الذين يموتون كفاراً . الاية تشير الى هؤلاء فتقول : "ولا الذين يموتون وهم كفار " وقد ذكر الله بهذه الحقيقة في آيات اخرى في القران الكريم .حيث تكرر في القران الكريم انه لا نجاة من الكفر ولا خلاص للانسان اذا مات وهو كافر ،يقول تعالى في سورة البقرة : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك اتوب عليهم وانا التواب الرحيم . ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.-162
ويقول تعالى في سورة آل عمران : ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الأرض ذهباً ولو افتدى به اولئك لهم عذاب اليم وما لهم من ناصرين.-91
اذن الذين يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم وليس امامهم سوى خيار واحد هو العذاب والهلاك يوم القيامة .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفاراً؟
والجواب :ان بعض المفسرين احتمل ان لا تقبل توبتهم في العالم الاخر، فالذين يتمادون في الكفر ثم يموتون كفاراً ويتوبون يوم القيامة وفي الاخرة ، فان الله لا يتوب عليهم وان ايمانهم لا ينفعهم في ذلك الوقت.
ولكن بعض المفسرين احتمل معنى اخر لجملة "ولا الذين يموتون كفاراً ". فقال ان الذين لا تقبل توبتهم هم الذين يتوبون من ذنوبهم حال ايمانهم ولكنهم لا يستمرون في الايمان ويموتون وهم كفار ، فتوبتهم السابقة من ذنوبهم التي بادروا اليها عندما كانوا مؤمنين لا تقبل منهم ولا يكون لها اي اثر او فائدة وذلك لأن الكفر اللاحق يحبط كل اعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الايات القرانية ،فتنتفي فائدة توبتهم السابقة التي صدرت منهم عندما كانوا مؤمنين بعد ان انتقلوا الى الكفر وماتوا وهم كفار.
ومهما يكن فان ما نستخلصه من مجموع الاياتين اللتين ذكرناهما في بداية الحديث: ان هناك اربع طوائف من الناس لا تقبل توبتهم بمعنى انه ليس حقاً على الله قبولها واذا كان الله قد يقبلها فانه يقبلها تفضلا من عنده ،وهذه الطوائف الاربع هم :
اولاً: الذين يتوبون من ذنوب صدرت منهم عن عناد وعداء وانكار واستكبار وتمرد على الله .
ثانياً: الذين يتوبون بعد تسويف ومماطلة وتأخير .
ثالثاً الذين يتوبون بعد ظهور علامات الموت وآثاره .
رابعاً: الذين يموتون كفارا ثم يتوبون.
كما ان المستفاد من الاياتين ان الذين تقبل توبتهم هم:
اولاً: الذين يتوبون من ذنوب صدرت منهم عن غفلة وجهالة وغلبة للشهوة.
ثانياً : الذين يسارعون الى التوبة بعد صدور الذنب منهم فورا وفي اقرب وقت ممكن.
ثالثاً: الذين تتحقق التوبة منهم قبل ظهور اثار الموت وعلاماته.
رابعاً: الذين يموتون وهم مؤمنون ،فان الله يقبل توبتهم في الاخرة اذا لم تكن عن عناد واستكبار .
وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين .