مقال لجريدة العهد بعنوان: أبوطالب وخديجة ، الدور المشترك لحماية الإسلام
- المجموعة: مقالات
- 13 كانون1/ديسمبر 1999
- اسرة التحرير
- الزيارات: 5986
في السنة العاشرة من البعثة النبوية وفي شهر رمضان كانت وفاة الرجل العظيم أبي طالب عم رسول الله (ص) وبعده بمدة قصيرة قيل ثلاثة أيام كانت وفاة خديجة بنت خويلد رضوان الله عليهما في العاشر من شهر رمضان، أفضل ازواج النبي (ص) واحسنهن سيرة واخلاقا ووعيا وتضحية وعطاءً.
فسمى النبي (ص) ذلك العام بعام الحزن لأنه فقد أعز وأحب الناس إليه، فقد فيه الناصر والعزيز والوفي والحامي والمدافع عنه وعن رسالته.
لقد بكى النبي (ص) عند وفاة عمه وحزن حزنا شديدا عند وفاة زوجته واعتبر موتهما خسارة ومصيبة كبرى للامة كما هو صريح قوله (ص) بهذه المناسبة: (اجتمعت على هذه الأمة مصيبتان، لا أدري بأيهما أنا اشد جزعا؟)
ومن الواضح أن النبي (ص) لم ينطلق في حبه لهما وحزنه عليهما من مصلحته الشخصية، أو من عاطفة نسبية رحمية، وإنما هو يحب في الله، ويحزن لله، ويقدر أي إنسان ويحزن لفقده، ويرتبط به روحيا وعاطفيا بمقدار ارتباط ذلك الإنسان بالله وبمقدار قربه من الله، وإخلاصه وتفانيه في سبيله وفي سبيل دينه ورسالته.
فالنبي (ص) لم يتأثر على ابي طالب ولا على خديجة لأن هذه زوجته وذاك عمه، وإلا فقد كان ابو لهب عمه ايضا ولم يتأثر عليه لحظة واحدة، وإنما تأثر عليهما وبكى من اجلهما لما لمسه فيهما من قوة إيمان وصلابة موقف، ومن تضحيات وتفان في سبيل الله والعقيدة وفي سبيل المستضعفين في الأرض، ولما خسرته الأمة فيهما من جهاد وإخلاص ووفاء قل نظيره في تلك الظروف الصعبة والحرجة من تاريخ الإسلام.
ونستطيع أن نعرف حجم الخدمات والتضحيات التي قدمها ابو طالب وخديجة في سبيل هذا الدين، بل عمق الدور الذي قاما به لحماية الإسلام من تسمية النبي (ص) لعام وفاتهما بعام الحزن.
ونحن وإن كنا نعترف بالعجز والتقصير عن الإلمام بكل مواقف أبي طالب وخديجة، وتضحياتهما الجسام في سبيل الإسلام إلا أننا سنحاول الإشارة هنا إلى بعض مواقفهما بما يتسع له مجال هذه المقالة.
1. لقد كان ابو طالب هو الرجل الذي قام برعاية النبي (ص) وكقالته منذ طفولته، وكان يقدمه على أولاده جميعا ويؤثره على نفسه، وكان شغله الشاغل الذي شغله هو وزوجته فاطمة بنت اسد حتى عن اولادهما في اشد المراحل ضيقا وحرجا، وقد بلغ من عنايته به وحرصه عليه أنه كان يصطحبه معه أينما ذهب خوفا عليه، وقد روى المؤرخون كيف أنه قطع سفره إلى الشام واعاد النبي (ص) بنفسه من بصرى إلى مكة عندما حذره بحيرا الراهب من اغتيال اليهود له (ص) لأن علامات النبوة كانت بادية عليه، وكان اليهود يتربصون به لأنهم لا يطيقون أن يكون نبي من غير جنسهم..
2. وكان هو الذي وقف إلى جانب النبي (ص) في كل مراحل المفاوضات في مواجهة المشركين عندما حاولوا مساومته على ابن اخيه من أجل القضاء عليه وعلى دعوته، وقد رأينا كيف انه وقف بكل قوة رافضا العرض الذي تقدم به المشركون في أن يسلمهم محمدا (ص) على أن يأخذ مقابله عمارة بن الوليد ليكون في رعايته وكفالته بدل محمد (ص). حيث قال لهم موبخا: بئس ما تسومونني عليه اتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون ابداً.
فقال له احدهم: والله لقد انصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.
فقال له ابو طالب: والله ما انصفوني ولكنك قد اجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك، وكان ابو طالب طيلة الفترة التي عاش فيها مع النبي بعد البعثة يدفع قريشا عن النبي باللين تارة وبالشدة اخرى ، وينظم الشعر السياسي ليثير العواطف تجاه محمد (ص) ويهيء الاجواء الملائمة لنشر الرسالة وحماية الدعوة واتباعها.
3. لقد كان ابو طالب ذلك الرجل الذي رضي بعداء قريش له، وتحمل الفقر والجوع والحصار الاقتصادي والمقاطعة الاجتماعية في سبيل الدفاع عن رسول الله (ص) وعن رسالته وإعطاءه الفرصة للتوسع والانتشار، بل لقد عبر صراحة في بعض مراحل المفاوضات عن انه على استعداد لأن يخوض حربا طاحنة، تأكل الأخضر واليابس، ولا يسلم محمدا لهم ولا يمنعه من الدعوة إلى الله.
وهو الذي وقف ذلك الموقف العظيم من طغاة قريش وجبابرتها حينما جاءه النبي (ص) وقد القى عليه المشركون أوساخ ناقة، حيث اخذ رضوان الله عليه السيف وتوجه نحوهم وأمر حمزة أن يأخذ الأوساخ ويلطخ بها من اعتدى على النبي (ص) واحدا واحدا ففعل، بل في بعض النصوص أنه - أي أبا طالب – نادى قومه وأمرهم أن يأخذوا سلاحهم. فلما رآه المشركون مقبلا ارادوا أن يتفرقوا خوفا منه، فقال لهم: ورب البنية لا يقوم منكم أحد إلا جللته بالسيف، فالزموا اماكنكم ، ثم ضرب أنف كل من شارك في رمي الأوساخ على النبي (ص) حتى ادماها، ثم أمر رمي الأوساخ – الفرث والدم- على لحاهم.
5- ويحدثنا التاريخ عن موقف آخر لأبي طالب، وذلك عندما افتقد النبي ذات مرة فلم يجده فجمع بني هاشم واعطاهم السلاح وأراد أن يجعل كل واحد منهم إلى جانب شخصية من شخصيات قريش يفتك بها لو ثبت أن محمدا (ص) قد اصابه شر أو سوء.
6- واثناء حصار الشعب كان رضوان الله يحرس النبي (ص) بنفسه خوفا من أن يتسلل أحد من المشركين إلى النبي، ويغتاله على حين غرة أو غفلة، بل كان ينقل النبي من مكان إلى آخر، ويجعل عليا (ع) في مكانه، حتى إذا حصل أمر أصيب ولده دونه.
ومن خلال هذه المواقف وغيرها يتضح أن ابا طالب كان على استعداد كامل لأن يتخلى عن مكانته الاجتماعية ويضحي بعلاقاته، بل ويتحمل النفي والحصار والمقاطعة، ويوطن نفسه على خوض حرب طاحنة إذا لزم الأمر، ويضحي حتى بولده الأصغر سناً علي (ع) ويجاهد بيده ولسانه ويستخدم كل ما لديه من إمكانات مادية ومعنوية ونفوذ ويواجه كل التحديات والضغوط والمصاعب الكبيرة والمشاق العظيمة في سبيل الدفاع عن رسول الله وحمايته وحماية دعوته ورسالته.
إن هذه المواقف الكبيرة لم تكن بدافع عاطفي أو بدافع من حبه الطبيعي لرسول الله (ص)، كما لم تكن نابعة من حمية نسبية وقبلية، وإنما كانت بدافع عقيدي وإيماني راسخ يدفع الإنسان للبذل والعطاء والتضحية بكل ما يملك في سبيل الدين والعقيدة، وذلك بدليل النصوص القاطعة التي دلت على إيمان أبي طالب وإسلامه وتصديقه برسالة رسول الله (ص) من جهة ومن جهة اخرى، أنه إذا كان محمد (ص) ابن أخيه، فإن عليا ولده وفلذة كبده، فلوكانت العاطفة النسبية هي الدافع. فلماذا يضحي بولده دون ابن اخيه طائعا مختارا؟ ولماذا يرضى بأن يكون الأغتيال لو تم موجها له دونه؟ أم يعقل أن يكون حبه الطبيعي لأبن اخيه أكثر منه لولده وفلذة كبده؟.
أما الحمية القبلية، والرابطة النسبية، فلو كانت هي السبب في موقفه ذاك، فلماذا لم تدفع أبا لهب وهو عم النبي ايضا، لأن يقف موقف أبي طالب فيدفع عن النبي ويضحي في سبيله حتى بولده ومكانته، وبكل ما يملك؟ مع اننا رأيناه من اشد الناس على النبي وأكثرهم جرأة عليه وإيذاء له.
وهكذا يتضح أن حمية الدين اقوى من حمية النسب، واننا لا يمكن أن نفسر مواقف أبي طالب تلك إلا على أنها كانت بدافع من إيمانه وعقيدته وحرصه على دعوة النبي ورسالته.
وأما خديجة:
ا- فقد اتفقت النصوص على انها كانت من افضل نساء قريش ومكة في خلقها وخلُقِها وجميع مواهبها، وهي بالإضافة إلى ذلك على درجة كبيرة من الجمال والغنى والثروة واليسار، بل من أبرز أثرياء مكة وتجارها حتى قيل أنها تملك عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية.
ولأنها جمعت إلى جانب ثروتها المادية الشرف والعفة والصون والكرامة فقد اصبحت تعد السيدة الأولى في مكة، ولهذا كان الناس يدعونها في الجاهلية بالطاهرة وكانت تعرف بسيدة قريش.
ولأجل مكانتها الاجتماعية هذه، كان كل رجال قومها يطمع إلى الاقتران بها قبل أن يتزوج بها النبي (ص)، وقد تقدم لخطبتها عقبة بن ابي معيط، وابو جهل، وابو سفيان وغيرهم من كبار القوم، ولكنها رفضتهم جميعا، واختارت محمد بن عبد الله ليكون زوجا لها بالرغم من قلة ماله، بعدما رأت فيه الصدق والأمانة والعفة وكرم الأخلاق، وكمال العقل والوعي، وشرف النفس، والخصال الكريمة التي رفعته على السادة من اشراف مكة.
ونكاد نقطع استنادا إلى كثرة النصوص أن خديجة هي التي بادرت أولا وأبدت رغبتها في الزواج بمحمد قبل أن يبادر هو، ويرجح أكثر المؤرخين أن يكون عمر خديجة حين تزوج بها ثمانية وعشرين عاما، وليس اكثر من ذلك، وعليه فهي كانت تكبر النبي بثلاث سنين فقط حيث كان عمر النبي (ص) حين زواجه بـها خمسا وعشرين سنة.
ولم تتزوج قبله بأحد، وإنما تزوج بها الرسول وكانت عذراء, وهذا ما أكده جمع من المؤرخين كالبلاذري وأبي القاسم الكوفي والسيد المرتضى في كتاب تلخيص الشافي وغيرهم.
واما النصوص التي تقول أنها تزوجت قبل رسول الله برجلين أولهما بعتيق بن عائذ العائد المخزومي، ثم من بعده بأبي هالة التميمي، فإننا نحتمل جدا أن تكون هذه النصوص مما صنعته يد السياسة بهدف الإيحاء بأن النبي لم يتزوج إمرأة عذراء غير عائشة.
2- لقد كانت خديجة الزوجة الوفية لرسول الله الصادقة في إيمانها ووفائها،وقد كانت أول من اسلم من النساء، وهي التي بذلت له مالها وواسته في جميع الخطوب والنكبات، فكانت تستقبله ببشاشة وجهها لتهون عليه الشدائد، وتخفف عنه الآلام والضغوط التي كان يواجهها في طريق الدعوة إلى الله، وكانت تود أن تتحمل عنه كل شيء ليسلم لرسالته.ولم يرد في ذكر فضلها ومناقبها أجلُّ ولا أجمل من قوله (ص) بعد وفاتها: "والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء"
1- انفقت كل اموالها وثراءها الواسع في سبيل هذا الدين، وعلى المسلمين خاصة في الظروف الحرجة التي واجهوها، اثناء اضطهاد قريش وحصارها الاقتصادي لهم، ولا شك أن أموال خديجة وأموال ابي طالب وما انفقاه على الإسلام والمسلمين وما قاما به من دور كبير في نصرة الإسلام، كان من جملة العوامل والظروف التي ساعدت على انتصار الإسلام وانتشاره في المنطقة في فترة قياسية من الزمن
والحمد لله رب العالمين