الحلقة 50
- المجموعة: هدى القرآن
- 19 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2452
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة/190.
ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في السنة السادسة من الهجرة عندما قصد رسول الله (ص) وجمع من أصحابه إلى مكة المكرمة لتأدية مناسك العمرة, فمنعهم المشركون من الدخول وصدوهم عن البيت الحرام قبل وصولهم إلى مكة في منطقة عرفت بالحديبية، ثم جرت بين النبي والمشركين مفاوضات انتهت إلى الصلح الشهير بصلح الحديبية, وعقدوا اتفاقية من جملة بنودها أن يرجع النبي والمسلمون هذا العام ويعودوا في العام المقبل فيمارسوا شعائرهم الدينية ويؤدوا مناسك العمرة كما يحبون ويفعلوا ما يريدون من الطواف والعبادة في داخل مكة حيث تعهد المشركون إخلائها لهم ثلاثة ايام.
فاتخذ النبي (ص) قرار العودة إلى المدينة فوراً ورجع المسلمون. فلما حلت السنة السابعة من الهجرة أي العام المقبل بالتاريخ الذي تم الاتفاق عليه، تجهز النبي (ص) والطلائع المؤمنة من أصحابه لتأدية عمرة القضاء في مكة حسب بنود الاتفاق، ولكنهم خافوا عدم الوفاء من المشركين بالتزاماتهم وعهودهم فقد يمنعونهم من دخول مكة مرة أخرى كما فعلوا في العام الماضي، أو يتعرضون للغدر أو القتال وهم في شهر حرام, حيث إنهم كانوا في شهر ذي القعدة الذي هو من الاشهر الحرام الأربعة ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب, وكان رسول الله (ص) يكره القتال في االشهر الحرام, ففي هذه الرحلة ربما يرغموا على القتال أو تفرض عليهم المعركة مع المشركين خاصة إذا غدر المشركون بهم، فتنتهك بذلك حرمة الأشهر الحرم التي يحظر عليهم القتال فيها, فأنزل الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون بالقتال حتى ولو كانوا في الشهر الحرام وذلك كحق طبيعي للدفاع عن أنفسهم وصد العدوان.
والآية إن كانت قد نزلت بمناسبة ذلك الحدث الذي حصل في التاريخ الإسلامي كما تبين من سبب النزول، إلا أن ذلك لا يجعل الآية خاصة بذلك المورد ولا يمنع من تعميمها لكل مورد وفي كل زمان ومكان يواجه فيه المسلمون اعتداءاً وقتالاً من قبل أعدائهم.
ولذلك فإن الآية تقرر حقاً طبيعياً فطرياً هو حق الدفاع عن النفس وعن الحقوق المشروعة عند مواجهة أي عدوان على النفس أو على تلك الحقوق.
فالآية تامر صراحة، بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وتجيز للمسلمين أن يواجهوا السلاح بالسلاح والقوة بالقوة والعدوان بالقتال والدفاع ومنطق السيف.
وفي هذه الآية إشارٌ إلى ثلاثة اسس توضح مفهوم الإسلام عن الحرب, فالآية تشير أولاً: إلى الهدف من الحرب في الإسلام أي لماذا نحارب؟ وتشير ثانياً: إلى تحديد العدو الذي يجب أن يحارب, أي من نحارب؟ وتشير ثالثاً: إلى ضوابط الحرب في الإسلام وأخلاق الحرب في الإسلام.
ونحن نتحدث عن هذه الامور الثلاثة بحدود ما تشير إليه فقرات الآية باختصار: أما بالنسبة إلى الامر الأول وهو الهدف من الحرب: فإن جملة (قاتلوا في سبيل الله) توضح الهدف الاساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب في الإسلام ليست للانتقام والثأر الشخصي، ولا للحصول على مكاسب ومصالح شخصية، ولا للوجاهة والزعامة والعلو في الأرض، ولا للاحتلال والاستيلاء على الأرضي، ولا للحصول على الغنائم، ولا لأجل تحقيق مكاسب سياسية وبسط سلطان سياسي كيفما كان، فهذا كله مرفوض في نظر الإسلام.
وحمل السلاح إنما يصح حينما يكون في سبيل الله, في سبيل نشر الحق والتوحيد وأحكام الله وإقامة العدالة واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف والاحتلال والدفاع عن الأرض والأهل والحقوق والمقدسات، فالحرب في الإسلام إنما هي حرب في سبيل الله, لها طابع عقيدي وإيماني وجهادي, وهكذا كانت كل حروب رسول الله (ص) وكذلك للحروب التي خاضها أمير المؤمنين (ع)، ولذلك كان علي (ع) يقول عن حروبه: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منَّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضُول الحُطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطلة من حدُودك.
فالإمام يشرح في هذا النص الطابع الفكري والعقيدي لحروبه وأنها كانت من أجل حماية الدين من التحريف وحماية المجتمع من الإنحراف وتحقيق الأمن للمظلومين والمقهورين, أي كانت قتالاً في سبيل الله ولم تكن تستهدف الفتح والاحتلال، أو الحصول على السلطة بأية طريقة، أو تحقيق مكاسب ومغانم دنيوية زائلة.
وأما بالنسبة للأمر الثاني وهو من تجب مقاتلتهم ومحاربتهم: فالآية تقول إنهم الذين يقاتلونكم (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) فالذين تجب مقاتلتهم هم االذين يقاتلونكم ويعتدون عليكم وعلى أرضكم وأهلكم ومقدساتكم, فلا تجوز مقاتلة العدو ما دام لم يشهر سلاحاً ولم يبدأ بقتال أو بعدوان إلا في موارد خاصة ربما نتحدث عنها في آيات أخرى.
ولذلك فقد ورد عن علي (ع): لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة، وتركُكم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم.
ويستفاد من الآية أيضاً: أن المدنيين من حيث المبدأ هم مصونون لا ينبغي أن يتعرضوا لهجوم أو قتال إلا اذا توقف ردعُ العدو ودفع عدوانه على مواجهة بالمثل.
وأما بالنسبة إلى الأمر الثالث وهو ضوابط الحرب: فتحددها جملة (ولا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين).
فالحرب في الإسلام من أجل كسب رضا الله وهي في سبيل الله ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان، ولا تجاوز للحدود والضوابط،وولذلك أوصى الإسلام بكثير من الضوابط والأصول الأخلاقية التي ينبغي أن تراعى خلال الحرب.
فالإسلام يوصي مثلاً خاصة بعد إلحاق الهزيمة بالعدو بعدم الاعتداء على المستسلمين، وعلى من فقدوا القدرة على الحرب والقتال كالجرحى, أو ليست لديهم أصلاً القدرة على الحرب كالشيوخ والأطفال وبعض النساء.
وهكذا يجب عدم التعرض للمزارع والبساتين والمنشآت المدنية، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدو كالسائدة اليوم في الحروب الكيماوية والجرثومية وما أشبه ذلك.
ولذلك فإن علياً (ع) يقول: "فإذا كانت الهزيمةُ بإذن الله, فلا تقتُلوا مُدبراً ولا تصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح ولا تَهِيجوا النساء بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم".
فالإمام يوصي خاصته بعد حلول الهزيمة بالعدو بعدم قتل المدبر الفار المهزوم وعدم مهاجمة المقاتل الذي عجز عن حماية نفسه وهو الذي عبر عنه بقوله: (ولا تصيبوا معوراً)، ولا يجوز الإجهاز على الجريح ولا إلحاق الأذى بالنساء والضعفاء.
والخلاصة: أن الحرب في الإسلام ليست حرب انتقام وتدمير, وإنما هي حرب الجأت إليها الضرورة وتهدف إلى تأديب العدو وردعه عن عدوانه ووضع حد لإرهابه وقتله وظلمه. ولذلك تجب مواجهة هذا العدو بالمنطق والأسلوب الذي يفهمه أي بمنطق القوة وبالرد عليه بالمثل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين