الكافرون قمة العناد والتعصب للضلال (13)
- المجموعة: هدى القرآن
- 13 كانون1/ديسمبر 2016
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2361
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).
التعاليم والمبادئ التي جاء بها الإسلام على نوعين: عقائدية وعملية, أي أصول وفروع، عقيدة وشريعة.
والعقيدة هي الاصول الأساسية التي ينبغي أن ينعقد عليها قلب الإنسان ويؤمن بها في فكره وعقله، كالإيمان بوجود الله وتوحيده والاعتقاد بالنبوة واليوم الآخر.
والشريعة: هي الأحكام والقوانين التي تنظم حياة الإنسان وأعماله وأفعاله.
والمنهج الذي اتبعه الإسلام في دعوة الناس إلى العقيدة، هو منهج الحكمة والموعظة الحسنة كما جاء في قوله تعالى: (ادغُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين) ـ النحل/ 125.
وهذا المنهج يعتمد على العقل الذي يتوصل الإنسان من خلاله إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده من خلال التأمل في خلقه, كما أنه هو الذي يتوصل من خلاله إلى الإيمان بالنبوة واليوم الآخر.
وأما المنهج لإثبات الشريعة وبيان أحكامها فهو القرآن والسنة النبوية والعقل، وترتكز أحكام الإسلام المأخوذة من هذه المصادر على المصالح والمفاسد، والطيبات والخبائث, فكل ما فيه مصلحة للإنسان أمر الله به واباحه وأحله، وكل ما فيه مفسدة أو خمر نهى عنه وحرمه.
قال تعالى: (ويُحلُّ لهم الطيبات ويحرمُ عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الاعراف/ 156.
وفي آية أخرى: (يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أُحلّ لكم الطيبات) المائدة/ 4.
(وأوحينا إليهم فِعل الخيرات) الأنبياء/73. وقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) النحل/ 90.
وباختصار فإن العقيدة منها ما يقوم على العقل ومنها ما يقوم على الوحي، وأحكام الشريعة ترتكز على المصالح والمفاسد.
واستجاب للإسلام ودعوته عقيدةً وشريعةً المتقون الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأعرض عن الإسلام عقيدة وشريعة الكافرون وهم المجموعة الثانية التي تحدث القرآن عن صفاتهم في بداية هذه السورة.
هذه المجموعة مجموعة الكافرون تقف إذن في الخط المقابل تماماً لخط المتقين، والآيتان اللتان قرأناهما في بداية الحديث بينتا صفات هؤلاء وبعض خصائصهم.
الآية الاولى: (إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) تقول إن الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، كما لا جدوى للوعد والوعيد معهم، فهم مستغرقون في كفرهم ومتعنتون ومعاندون، ولذلك فهم ليسوا على استعداد للاستجابة لدعوة الحق والإيمان, بخلاف المجموعة الاولى التي تستجيب لنداء الحق والهداية.
هذه المجموعة غارقة في ضلالها وانحرافها بل هي بلغت أقصى درجات ومراتب الضلال، وهي ترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها.
ومن هنا فهم لا يتأثرون بالقرآن، ولا يتأثرون بالوعد والوعيد، ولا يتأثرون بحقائق الإيمان وبراهينه وأدلته، لأنهم يفقدون الأرضية اللازمة، لقبول الحق والاستسلام له.
أما الآية الثانية: فهي تشير إلى سبب هذا العناد والتعصب لنهج الكفر والضلال، وتقول: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوة ولهم عذاب عظيم). ختم القلوب والاسماع بمعنى إقفالها وسدها لأن الختم بمعنى سد الشيء. والغِشاوة هي الغطاء فكأن على أبصارهم غطاء وحجاب يمنعهم من رؤية الحق.
ومعنى الآية أن اجهزة استقبال الحقائق لدى الكافرين معطلة ومعطوبة, العين التي يرى المتقون فيها آيات الله، والأُذن التي يسمعون بها نداء الحق، والقلب الذي يدركون به حقائق الإيمان, كل هذه العناصر تعطلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين.
هؤلاء لهم عيون وآذان وعقول لكنهم فقدوا قدرة الرؤية والإدراك والسمع وقدرة تشخيص الحق, نتيجة استغراقهم في الانحراف وعنادهم وتعصبهم, لأن الإنحراف والعناد والتعصب كلها عناصر تشكل حجاباً وحاجزاً أمام أجهزة المعرفة لدى الإنسان، فتتعطل عنده أجهزة المعرفة، يتعطل عنده القلب والعين والأذن ويفقد قدرة التشخيص وقدرة التمييز بين الحق والباطق وبين الحضارة والجاهلية, فلا يعود يميز لا بين الحق والباطل ولا بين الخير والشر ولا بين النهج الصحيح وبين النهج الخاطئ.
والسؤال الذي يُطرح في هذا المجال أن الظاهر من قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوة) أن الله هو الذي منعهم من الإيمان واتباع الحق, لأنه هو الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعليه يكون الكافر مسيراً ومجبراً في البقاء على الكفر وليس مخيراً, ولا يملك حرية الخروج من حالته هذه؟ وإذا كان مجبراً فلماذا يعاقبه الله ولماذا يعذبه الله؟.
القرآن يجيب على هذه التساؤلات ويقول: إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجةُ إصرار هؤلاء وعنادهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في ممارسة الظلم والطغيان والكفر والاستكبار. يقول تعالى عن الكافرين: (بل طبع الله عليها بكفرهم) النساء/ 155. أي أن الله تعالى يطبع على قلوبهم بحيث تفقد قدرة الإدراك والتشخيص بسبب كفرهم وأعمالهم، وفي آية آخر يقول تعالى: (كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبر جبّار) المؤمنون/ 35. ويقول ايضاً: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غِشاوة) الجاثية/23. ويقول في موضع آخر: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين/ 14.
كل هذه الآيات تدل على أن السبب في توقف أجهزة الإدراك عن العمل لدى هؤلاء, والسبب في سلب قدرة التشخيص عنهم يعود إلى كفرهم وتكبرهم وتجبرهم واتباعهم الهوى وعنادهم أمام الحق, فالختم والطبع على قلوبهم حاصل من عملهم وإصرارهم على الكفر، والرين الذي يعني الصدأ الذي يغطي القلب كان بسبب كسبهم المعاصي، الذنوب وتلك المعاصي هي التي غطت قلوبهم وسدت نوافذها، فهذه الحالة حالة الختم على القلب التي تصيب الإنسان هي في الحقيقة رد فعل لأعمال الإنسان نفسه, فقد ورد في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) انه قال: "الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة لهم على كفرهم".
من المظاهر الموجودة عند البشر، أن الإنسان لو تعود على انحراف معين واستأنس به فإن الانحراف يتخذ في المرحلة الاولى شكلاً وحالة, ثم يتحول إلى عادةٍ, ومع الاستمرار يصبح الانحراف ملكة وجزءً من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً إلى درجة معينة لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها ابداً، لكن الإنسان هو الذي اختار طريق الإنحراف هذا, وهو الذي أوصل نفسه إلى هذه الدرجة عن علم ووعي واختيار، ومن هنا فهو المسؤول عن نتائج أعماله دون ان يكون في المسألة جبر وإكراه، تماماً مثل الشخص الذي فقأ عينيه وسد إذنيه عامداً متعمداً حتى لا يسمع ولا يرى, فهل يمكن أن نقول عن مثل هذا الشخص أنه أُجبر على عدم الرؤية وعدم السماع وهو الذي أوصل نفسه باختياره وبسبب أعماله إلى هذه الحالة؟!.
في حياتنا اليومية نجد صوراً عديدة لأشخاص ارتكبوا عملاً محرماً فتألموا في البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم، لكنهم استأنسوا تدريجياً بفعلهم وزالت من نفوسهم الحساسية تجاه الذنوب والمعاصي، ووصل بهم الامر في مراحل تالية إلى أنهم أصبحوا يجدون لذةً وانشراحاً في الإنحراف وارتكاب الذنوب.
أليس فينا من كان إذا كذّب أو اغتاب شخصاً يتألم لما فعله وشعر بانه اذنب وأخطأ؟ ثم بعد ذلك ونتيجة تكراره للكذب والغيبة اصبح يستانس تدريجياً بالكذب وبالحديث عن عيوب الناس، وزالت من نفسه حساسيه تجاه هذا الذنب ووصل به الحال إلى أن أصبح يشعر باللذة في الكذب وفي الحديث عن عيوب الناس؟.
أليس فينا من يشعر بان ممارسة بعض المحرمات أصبح شيئاً روتينياً وعادياً جداً بالنسبة له, لأنه اعتاد عليه وأدمن على ممارسته وفعله؟؟
إن الذي أوصل الكافرين إلى حالة الختم على قلوبهم وسمعهم التي فقدوا معها قدرة التشخيص فتوقفت أجهزة المعرفة والإدراك عندهم عن العمل, هو إصرارهم على الانحراف وممارسة الكفر والاستكبار واتباع الهوى وارتكاب الذنوب والمعاصي, بحيث أصبحت الذنوب والمعاصي صفة ثابتة عندهم.
والشيء الذي نستفيده من كل ذلك: أن ارتكاب الذنوب والتمرد على الله والاستغراف في الانحراف يسلب عن الإنسان قدرة تشخيص الموقف الصحيح والاتجاه الصحيح, لأن الذنوب تغطي القلب وتعطل حاسة الإدراك وأجهزة المعرفة لدى الإنسان المذنب, ولأن ممارسة الذنب عندما يصبح شيئاً عادياً نستسهله وكأن شيئاً لم يحصل، يتراكم فيختم على القلب ويسده ويصبح صفة ثابتة عندنا.
ومن هنا فإن علينا أن نكون على حذرٍ لدى صدور الذنب منا, بأن نسارع إلى غسل الذنب بماء التوبة والعمل الصالح حتى لا يتحول الذنب إلى صفة ثابتة وحالة عادية مختوم عليها في القلب.
ففي الحديث عن الإمام الباقر (ع): ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء, فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد, فإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذ غُطي البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبداً، وهو قول الله عز وجل: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين