المحكم والمتشابه في القرآن (69)
- المجموعة: هدى القرآن
- 07 شباط/فبراير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4704
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُن أُمُّ الكتاب وأُخَرُ متشابهاتٌ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللهُ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذّكر إلا اُولوا الألباب) آل عمران/7.
يدور الحديث في هذه الآية حول تقسيم آيات القرآن إلى آيات محكمة وآيات متشابهة، وكيف يتعامل المؤمنون وغير المؤمنين مع هاتين المجموعتين من الآيات.
ومن أجل أن نفهم معنى هذه الآية بشكل واضح وجيد لا بد من ملاحظة النقاط التالية:
النقطة الأولى: إنه ما المقصود من الآيات المحكمة والمتشابهة؟ ما المراد من المحكم وما المراد من المتشابه؟
المحكم: هو كل قول واضح وصريح ومفهوم المعنى ولا يحتمل اي معنى آخر خلاف المعنى المفهوم منه.
وعليه فإن الآيات المحكمات هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة, واضحة المعاني، ولا مجال للجدل والخلاف بشأنها كما لا مجال لتأويلها وتفسيرها بتفسيرات متعددة وحملها على معان أخرى غير المعاني المفهومة منها, لأن معناها واضح وبين وظاهر، وذلك مثل آية: (قل هو الله أحد)، فإن معناها ومفهومها واضح وصريح وهو توحيد الله، أو مثل آية: (الله خالق كل شيء)، وآية: (ليس كمثله شيء)، وآية: (للذكر مثل حظ الأنثيين).. وغيرها من مئات الآيات الأخرى التي تتعلق بالعقائد والأحكام والأخلاق والتاريخ فهي كلها من الآيات المحكمات, واضحة المعاني والمفاهيم, ولا تحتمل تفسيرات متعددة غير المعاني المفهومة منها.
والمتشابه: هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة, فالجمل والكلمات والأقوال التي معانيها معقدة وغامضة وتنطوي على احتمالات مختلفة وتفسيرات متعددة توصف بأنها متشابهة.
وعليه فالآيات المتشابهة هي الآيات التي تبدو معانيها لأول وهلة معقدة وغامضة وذات احتمالات متعددة من حيث المعنى والمفهوم منها، ولكن هذه الآيات تتضح معانيها وتظهر بعد إرجاعها إلى الآيات المحكمات كما سنذكر.
الآيات المتشابهات مثل آية: (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) القيامة 22/23.
فإن هذه الآية للوهلة الأولى نجد أن معناها معقد لأنها يحتمل أن تكون الوجوه يوم القيامة ناظرة إلى ربها بمعنى أن الله جسد يقف أمام الناس يوم القيامة والعياذ بالله فتنظر الناس إليه، ويحتمل أن يكون المعنى أن الوجوه يوم القيامة ناظرة إلى درجة ربها إلى عفو ربها وليس إليه لأنه ليس بجسد.
كذلك من الآيات المتشابهات آية: (الرحمن على العرش استوى)، فإنه يحتمل أن يكون استوى أي جلس وهذا يؤدي إلى أن يكون الله جسماً والعياذ بالله, ويحتمل أن يكون استوى بمعنى استقل بالملك والسلطة.
وكذلك من الآيات المتشابهات مثل قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، و(والله سميع عليم)، و(يوم يكشف عن ساق)... وغيرها من الآيات الغامضة التي تحتمل عدة معان. ومن البديهي هنا أن نقول: إن الله ليس جسماً, فالله لا يد له بمعنى العضو المعروف ولا ساق له بالمعنى المعروف وإنما هذه التعابير كنايات عن مفاهيم ومعاني كلية لقدرة الله وعلم الله وقوة الله ورحمة الله وهكذا.. كما سنوضحه في النقطة الثانية.
ولا بد من الإشارة إلى أن كلمتي المحكم والمتشابه قد وردتا في القرآن الكريم بمعنى آخر, ففي أول سورة هود نقرأ قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته) ففي هذه الآية يشير الله إلى جميع آيات القرآن بأنها آيات محكمات والمقصود هنا بالمحكم هو قوة الترابط والتماسك بين الآيات, فآيات القرآن كلها مترابطة ومتماسكة, وهي بهذا المعنى كلها محكمة.
ونقرأ في الآية 23 من سورة الزمر قوله تعالى: (كتاباً متشابهاً) أي أن القرآن كلُ آياته متشابهات والمقصود بالتشابه هنا التماثل فكل آيات القرآن متماثلة من حيث صحتها وحقيقتها, وهي بهذا المعنى كلها متشابهة من حيث الصحة وكلها متشابهة ومتماثلة في أنها تدل على حقيقة واحدة وهدف واحد وهو هداية الناس إلى الخير والسعادة.
النقطة الثانية: إن الآية تصف الآيات المحكمات بأنها (أم الكتاب) تقول الآية: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أُمُّ الكتاب). فصحيح أن القرآن فيه آيات محكمات واضحة المعنى وآيات متشابهات معقدة الممعنى, لكن الآيات المحكمات هي أم الكتاب, أي هي الاصل وهي الاساس وهي المرجع والمفسر والموضح لسائر الآيات الأخرى.
والإنسان الباحث عن الحقيقة لا بد له حتى يفهم كلام الله من أن يضع الآيات جنباً إلى جنب ثم يستخرج منها الحقيقة والمعنى الكامل والمفهوم الذي يريده الله، فإذا لاحظ في بعض الآيات إبهاماً وتعقيداً وغموضاً في المعنى فإن عليه أن يرجع إلى آيات أخرى لرفع ذلك الإبهام والتعقيد والغموض ليصل إلى حقيقة المعنى.
إن التعبير عن الآيات المحكمات بأنها أم الكتاب واساس الكتاب، يشير إلى أنه لا بد من إرجاع الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات، لأن الآيات المحكمات هي التي تفسر الآيات المتشابهات وترفع الإبهام والغموض والتعقيد عنها، وتوضح معانيها الحقيقية. مثلاً: آية: (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) المتشابهة إذا رجعنا إلى آية: (ليس كمثله شيء) ـ الشورى/ 11. المحكمة وإلى آية: (لا تدركه الأبصار) ـ الأنعام/ 103. المحكمة أيضاً يتبين أن المقصود بكلمة (ناظرة) ليست الرؤية البصرية الحسية وإنما رؤية ونظرة من نوع آخر, أي ناظرة إلى رحمة ربها فالوجوه يوم القيامة تتطلع إلى رحمة الله.
وكذلك آية: (الرحمن على العرش استوى) ـ طه/15. أو آية: (ثم استوى على العرش يدبر الامر) ـ يونس/ 3.
إذا أرجعنا هاتين الآيتين المتشابهتين إلى آية: (ليس كمثله شيء)، المحكمة يتبين لنا أن الاستواء في الآيتين ليس بمعنى الجلوس حتى نقول إن الله جسم يجلس على العرش كما نجلس نحن, لأنه ليس كمثله شيء، بل الاستواء قد يكون بمعنى الاستقلال في الملك والاستقلال في بسط السلطة على السموات والأرض وتدبير شؤون هذا العالم.
وكذلك آية: (يد الله فوق أيديهم)، وآية: (والله سميع عليم)، وآية: (يوم يكشف عن ساق). هذه الآيات المتشابهات التي يحتمل كل واحد منها أكثر من معنى، لو أرجعناها إلى آية: (ليس كمثله شيء)، نفهم أنه ليس المقصود باليد أو بالسمع أو بالساق الأعضاء المعروفة، لأنه ليس كمثل الله شيء, بل إن المقصود من اليد القدرة الإلهية, والمقصود بالسميع العليم العلم المطلق الذي يملكه الله عز وجل, والمقصود بالساق الشدة والقوة، لأن الله ليس كمثله شيء, فليس له يد بمعنى العضو المعروف ولا سمع ولا ساق بالمعنى المعروف.
ثم تشير الآية بعد ذلك إلى أن المغرضين والذين في قلوبهم زيغ أي انحراف، هؤلاء لا يقرأون القرآن ليتدبروا في آياته وليهتدوا به، فلا يرجعوا الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمة لتكون الآيات المحكمة دليلاً على تفسير وتوضيح معاني الآيات المتشابهة، بل يحاولون أن يقرأوا القرآن قراءة الإنسان الذي يحمل نفسية معقدة تجاه الدين والرسالة والقرآن, فهم يعملون على إيجاد الارتباك في مفاهيم الآيات ومعاني الآيات ويحرفونها عن معانيها الحقيقية، من أجل فتنة المسلمين عن دينهم ومن أجل تشكيك المسلمين بمفاهيم الدين وبالتصورات التي يحملونها عن الله وعن صفاته وعن المبادئ التي أنزلها على رسوله، ولذلك هؤلاء يتبعون الآيات المتشابهات ليس اتباع العمل والهدى بل اتباع الفرصة التي تسنح لهم بأن يفسروا الآيات المتشابهات بطريقة غير صحيحة, من أجل تضليل الناس وتشكيكهم وفتنتهم عن دينهم وعن مفاهيم ومعاني القرآن الحقيقية.
ولعل مما يوضح صورة هؤلاء ما ورد في سبب نزول هذه الآية وهو أن جمعاً من نصارى نجران جاء إلى النبي (ص) واحتجوا بقول القرآن في شأن المسيح (ع) (كلمة الله وروحه) في محاولة منهم لاستغلال هذه الآية المتشابهة للتدليل على عقيدة التثليث التي يقولون بها وللتدليل على ألوهية المسيح, متجاهلين كل الآيات الأخرى الموجودة في القرآن الصريحة في عدم وجود شريك لله أو شبيه لله أو ولدٍ لله, فإنزل الله هذه الآية: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) ومن أجل أن يبين أن هذه الجماعة تأخذ بالآيات المتشابهة لتفسرها على مزاجها من دون ملاحظة الآيات المحكمة التي تبين المعنى الحقيقي لتلك الآيات المتشابهة, ولتبين أن هدف هؤلاء من ذلك هو تضليل الناس عن الحق باسم آيات الحق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين