الرسول (ص) قائد في الميدان وفي السياسة(84)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 07 نيسان/أبريل 2014
- اسرة التحرير
- الزيارات: 11118
سلوكه(ص) القيادي - (84)
كما كان رسول الله (ص) عظيماً في أخلاقه الشخصية والاجتماعية فقد
كان عظيماً في خلقه السياسي كقائدٍ وكرجل دولة. ونستعرض في هذه المقالة بعضَ ملامح سلوكهِ القيادي وأخلاقهِ السياسية في عدة نقاط :
النقطةُ الأولى: العدلُ والتدبير: فقد كان (ص) عادلاً حكيماً مُدبّراً، وقد رَوىَ الشيخ الكليني في كتاب الكافي الشريف عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كان رسول الله (ص) يقسّمُ صدقةَ أهلِ البوادي في أهل البوادي، وصدقةَ أهل الحضر في أهل الحضر. واستطاع بحكمته وتدبيره الحدَّ من العَدَاوات والأحقاد والبغضاء والحروب التي كانت سائدةً بين القبائل والجماعات السياسية العربية.
النقطةُ الثانية: هي حمايةُ القوانين والحرصُ على تطبيق التشريع وإجراء الحدود الإلهية: فقد كان (ص) حريصاً على حفظ النظام العام ورعاية التشريعات الإلهية وحمايتها وعدم مخالفتها، ولم يجامل أحداً فيما يعني تطبيقَ الشريعة وإنزالَ العقوبة بالمذنب كائناً من كان.
ففي فتح مكة ارتكبت امرأةٌ من بني مخزوم جريمةَ السرقة، وثَبَتَتِ السرقةُ عليها من الناحية القضائية، لكنَّ قومَها الذين كانت الترسباتُ القبليةُ والجاهليةُ لا تزال تعشش في عقولهم رأَوا أن إنزال العقابِ بها يخدش مكانتهم وموقعَهم، الاجتماعي ويُلحقُ العارَ بشرفهم، فبذلوا جهدهم وتوسطوا لعلهم يستطيعون رفع العقاب عنها، فأرسلوا أسامةَ بنَ زيد الذي كان موضع احترام وتقدير عند النبي (ص) مثلَ أبيه، وسيطاً يتشفّعُ لها عند النبي (ص) فغضب النبي (ص) وقال له: ما هذا محلُ شفاعة، وأصدر أمره (ص) بإنزال العقوبة بها وإجراءِ حدود الله عليها.
ولكي يزيل من أذهان الناس فكرةَ المحاباة في تطبيق التشريع وإقامة حدود الله، خطب (ص) في الناس في ذلك اليوم مشيراً إلى هذه الحادثة فقال (ص): إنما هَلكَ من كان قبلَكُم بمثل هذا.. كانوا يُقيمون الحدودَ على ضعفائهم ويتركون أقوياءَهم وأشرافَهم فهَلَكُوا، أي إن الأمم السابقة قد هَلَكَتْ وبادتْ لأنها كانت تُقيمُ الحدَ على الضعيف وتترُكُ الشريفَ حتى لو سرق أو ارتكب جرماً يستحق العقاب.
ولم يكن النبي (ص) يرى نفسه أنه فوق التشريع أو القانون بل إنه التزم وطبقَ بدقةٍ ما ألزمَ به الجميع، فقد أعطى القَوَدَ من نفسه، وعرضَ القِصَاصَ منها. مسجلاً بذلك نقطةً ناصعةً بيضاءَ لم يشهدِ التاريخ مثيلاً لها. فقد رُويَ أن النبي (ص) كان يُعدِّلُ صفوف أصحابه يوم بدر وبيده قِدْحٌ (أي سهم) يُعدّلُ به القوم، فمرَّ سوادُ بنُ غُزيمة وهو متقدمٌ من الصف، فضربه النبي (ص) على بطنه بالسهم وقال له: إستوِ يا سواد.
فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني من نفسك فكشفَ رسولُ الله (ص) عن بطنه ليقتصَ الرجلُ منه وقال: إستقد. فاعتنقَه سوّادُ وقبَّلَ بطنه فقال (ص): ما حملك على هذا يا سواد فقال: حضرَ ما ترى (أي من الحرب) فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يَمَسَّ جلدي جلدُك.. فدعا له رسول الله (ص) بخير.
النقطةُ الثالثة: الالتزامُ بالعهود والمواثيق: فلم يحدث إطلاقاً أن أخلَّ النبيُ (ص) بعهوده التي أبرمها مع أعدائه، وقد أخلّتْ قريشٌ بعهدها معه وأخلَّ اليهودُ بعهودهم ومواثيقهم، ولكنه لم يُخِلَّ أبداً بعهده مع أحد.
النقطةُ الرابعة: الالتزامُ بمبدأ احترام الآخرين، وهو المبدأ الأخلاقي الذي اتبعه النبي (ص) مع زعماء العالم الذين لم يكونوا على دينه، ففي الرسائل التي بعث بها الرسولُ الأعظمُ (ص) إلى زعماء العالم آنذاك نجد أنه (ص) برُغْم تصلبه وتشدده في ذات الله، قد طبق مبدأ الاحترامِ مع هؤلاء، وذلك عندما خاطب كسرى بعظيم فارس وقيصر بعظيم الروم، وذلك من أجل أن يكشف لهم أن الإسلام هو الدينُ الذي جمع كلَّ المبادىء السامية والقيمِ الإنسانية والأخلاقية.
النقطة الخامسة: بُعْدُ النظر الذي كان يمتلكُهُ النبيُ (ص)، فالدارسُ لسيرة النبي (ص) يرى أن الله تعالى أعطاه من بُعْدِ النظرِ ما لم يعط غيرَه، لقد رأينا بُعدَ نظره يومَ وضعتْ قريشٌ الشروط لصلح الحديبية، فقد رأى بعضُ أصحابه في هذه الشروط إجحافاً بحق المسلمين، ورأى فيها رسولُ الله (ص) بما آتاه اللهُ من بُعدِ النظر النصرَ والعزةَ والرفعةَ للمسلمين، ورأى أن قريشاً بوضعها هذه الشروط إنما تحفر قبرَهَا بيدها وتكتبُ دمارَ أطروحتها بقلمها.
ورأينا بُعدَ نظره (ص) أيضاً في احتوائه وتسامحه مع عبدِ الله بنِ أُبي زعيمِ المنافقين عندما حاول مساعدة بني قينقاع وبني النضير وعندما حاول إثارةَ الفتنة بين المهاجرين والأنصار في غزوة بني المصطلق. إذ لم يقبل عرضاً لقتله كان قد عرضه بعضُ أصحابه عليه ، رفض النبي(ص) قتله وبقي يتألفُهُ ويستوعبُهُ حتى انكشف نفاقُ عبدِ الله بنِ أُبيٍّ لكل الناس، وظهرتْ عدَاوتُهُ للإسلام والمسلمين، فكان قومُهُ بعد ذلك إذا أساءَ أو ارتكب مخالفةً هم الذين يعاتبونَهُ ويعنفونَه، وعندها قال رسول الله (ص) لعمر بنِ الخطاب: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلتُهُ يومَ قلتَ لي أُقتله، لارتعدتْ له أُنُفٌ لو أمرتُهَا اليومَ بقتله لقتلته، فقال عمر: قد والله علمتُ أن أمر رسولِ الله أعظمُ بركةً من أمري.
النقطةُ السادسة: إن النبي (ص) كان يقدِّمُ أهلَ بيته وأقرباءَه في الحروب إلى ساحة القتال قبل أن يقدّمَ أصحابَه الآخرين. ففي معركة بدر قدّمَ حمزةَ وعلياً وعبيدةَ بنَ الحارث للمبارزة وأمرهم بالخروج إلى ساحة القتال وهم جميعُهُم من أهل بيته وأقربائه، وقد أرجع ثلاثةً من أصحابه من الأنصار كانوا قد برزوا للقتال قبلهم.
وقد رُويَ عن علي (ع) في حديث له عن سيرة النبي (ص) في الحرب أنه قال: كان إذا حضرَ البأس، وأحجمَ أصحابُهُ، ودُعيتْ نَزَال(أي تنازلوا للحرب) قدَّمَ – يعني النبيُ (ص) – أهلَ بيته فوقىَ بهم أصحابَهُ حرَّ السيوف والأسنة، فقُتلَ عبيدةُ يومَ بدر، وحمزةُ يومَ أُحد، وجعفرٌ يومَ مؤتة..
ومن المعلوم أن النبي (ص) حين يبدأُ الحربَ بأهل بيته فإنه يكون بذلك قد أثبت بالفعل لا بالقول فقط لكل أصحابه: أنه ليس فقط لا يريد أن يجعلَهُم وسيلةً للوصول إلى أهدافه، ويدفعَ بهم الخطر عن نفسه وأقربائِه، وإنما ثمةَ هدفٍ أسمى لا بد من أن يساهم الجميعُ في العمل من أجله وفي سبيله وهو شريكٌ لهم في كل شيء في السراء والضراء والشدةِ والرخاء، وهو يضحّي ويقدّمُ في سبيل تلك الأهداف التضحيات قبل أن يطلبَ ذلك من غيره، بل يحاول أن يدفع عن غيره ولو بأهل بيته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وذلك هو ما يجب أن يكون المثلُ الأعلى لكل صاحب هدف وقضية، ولكل قائد وسياسي، فإن عليه أن يقدّمَ هو أولاً التضحيات فإذا احتاج إلى مساعدة غيره، فإن طلبه منهم يكون له مبرراتُه، ويراه كلُ أحد أنه صادقٌ ومحقٌ في طلبه ذاك، وليس له أبداً أن يجلس في برجه العاجي، ثم يصدر أوامره للآخرين، من دون أن يرى نفسه مسؤولاً عن التحرك في اتجاه الهدف إلا في حدود الكلام والمواقف وإصدار الأوامر، فإن الكلام لن يكون كافياً في تحقيق الأثر المطلوب في التحرك نحو الهدف، مهما كان ذلك الهدف مقدساً وسامياً.
الشيخ علي دعموش