العبادة والتربية على الاخلاق والنظام
- المجموعة: 2020
- 11 أيلول/سبتمبر 2020
- اسرة التحرير
- الزيارات: 488
لا شك ان الغاية الاساسية من تشريع الفرائض والعبادات في الاسلام ليس حب التسلط والهيمنة والفرض والتحكم بالعباد، او الحصول على المنفعة (فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ)
بل الغاية هي:
اولا: تعميق علاقة الإنسان بربه، وتأكيد حالة العبودية والطاعة لله سبحانه وتعالى.
وثانيا: التربية على التزام القيم والأخلاق، ورعاية النظام في إدارة شؤون الحياة.
فالعبادات هي صلة بين العبد وربه، وهي تمتن علاقة الانسان مع الله، من خلال وقوفه بين يديه ومخاطبته وامتثال أوامرهوأحكامه، فعندما يقف الانسان في الصلاة او في الدعاء ليخاطب الله مباشرة ويطلب منه حاجاته ويتوسل اليه في اموره، فان الله سينظر اليه بعين الرحمة، فالله ربما يكون في بعض الدّيانات شيئاً غامضاً، بحيث لا علاقة للبشريَّة به، أو لا علاقة له بالبشر إلا أن يتعبَّدوا له بشكل اجوف وشكلي، لكن في عقيدتنا الاسلامية فان الله هو الرّحمن، وهو الرّحيم، وهو المعطي، وهو الرازق وهو الكريم، وهو الحامي، ومعنى ذلك أنّ الله لا ينفصل عن حياتنا ، وهو حاضر في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا، فهو الرحمن الرحيم الذي يمنحنا الرحمة والعفو والمغفرة، وهو المنعم الذي ينعم علينا بكل اسباب الحياة، وهو الرزاق الذي يرزقنا، وعندما نحسّ بالقوّة والعزة، فإنَّنا نشعر بأنّنا نستمدّ القوّة من قوته والعزة من عزته ، وهكذا هو المعطي، وهو الكريم، وهو الجواد، وهو الحكيم الَّذي يمنح حياتنا حكمة واتزانا ، وكل هذه المعاني لا يشعر فيها الانسان بدون العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى.
لذلك، فكلَّما عرفنا الله أكثر، شعرنا بنعم الله اكثر وكلما توجهنا الى الله اكثر وعبدناه اكثر كلما شعرنا بالأمن أكثر، وقد كان رسول الله(ص) في أشدّ حالات الخطر يشعر بالأمن، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)،هذه المعيّة؛ معيّة الله لعبده، تعني أنّك حتى لو كنت في الصّحراء وحدك، فإنّك لست وحدك، لأنَّ الله معك، وفي الدّعاء عندما نقول:(يا عدّتي في كربتي، ويا صاحبي في شدّتي)، فإنَّ الله هو صاحبك الَّذي يصحبك في الشّدّة ويكون معك في شدَّتك، بحيث يخفّفها عنك ويحميك من كلِّ تأثيراتها، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
فالعبادة تجعل الانسان يخاطب الله ويتوجه الى الله ويلجأ الى الله ويطلب حاجاته من الله ويفتح قلبه على الله، وإذا انفتح قلب الإنسان على الله، فإنّه لا بدّ من أن يفتح الله له، وهو ربُّ العالمين ، يفتح عقله و قلبه وروحه وحياته على الحق والعدل وكل مواطن الخير.
اذن العبادة تعمق علاقة الانسان بالله روحيا وفي كل مجالات الحياة.
اما كيف تربي العبادة الانسان على التزام القيم الاخلاقية والانسانية؟ وكيف تدرب الانسان على الالتزام بالنظام في ادارة شؤون الحياة؟ فان نظرة بسيطة على العبادات والاحكام والآداب المتعلقة بها، تجعلنا ندرك كيف ان اداء الفرائض والعبادات بشكل صحيح يترك اثرا واضحا في اخلاق وسلوك الانسان في الحياة.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتقوم سلوك الانسان في الحياة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ فاذا لم تحقق الصلاة هذه القيمة الاخلاقية فلا روح فيها ولا قيمة لها.
والغاية من فريضة الصوم هو الحصول على ملكة التقوى التي تجعل الانسان مستقيما في الحياة ومتمسكا بالقيم وقواعد الاخلاق، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فالهدف من الصوم هو التقوى، فلا بُدّ من السعي لتحصيل هذه الملكة من خلال هذه العبادة، فاذا لم يحصل الانسان من الصوم على هذه الغاية فليس له من صيامه سوى الجوع والعطش والتعب. ويقول الله تعالى عن (الهدي) في الحج: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾، حيث الغاية هي التقوى ايضا، ويقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، فالله تعالى يفرض على من يؤدي مناسك الحج ان يؤديها في أجواء قيمية أخلاقية، تراعى خلالها الآداب، واحكام الله، واحترام حقوق الآخرين، ، فان مراعاة الضوابط والآداب التي نصت عليها الآية الكريمة هو من أهداف هذه العبادة، حتى يتربى الحاج على الالتزام بهذه القيم والأخلاق، وهكذا سائر العبادات فان الغاية الاساسية منها تربية الانسان على القيم والاخلاق والتحلي بالصفات الجميلة والنبيلة التي تجعل من شخصية الانسان المؤمن انوذجا وعنوانا للقدوة الحسنة، ولذلك تقول الزهراء (ع) في خطبتها الشهيرة عن فلسفة بعض العبادات والتشريعات:( فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ. وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، {فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ{.
اذن فالغاية من كثير من التشريعات والعبادات هي تقويم سلوك الانسان، وتربيته على قيم الصدق، والاخلاص، والتواضع، والعزة، والعفة، وطهارة النفس، والترفع عن الموبقات، ومراعاة مصالح الاخرين وحقوقهم، وغير ذلك من القيم الاخلاقية والانسانية. ومن دون الحصول على مثل هذه القيم عند اداء العبادات فان العبادة تفقد قيمتها وروحها ومعناها وأثرها في حياة الانسان، بل قد تتحول الى مجرد شكل وطقس من الطقوس الجوفاء الذي اعتاد الانسان على ممارستها في حياته بشكل روتيني.
فعن النبي (ص) أنه قال: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بهَا مِنَ الله إِلَّا بُعْدًا.
وفِي حديث آخر عنه (ص):لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ تَنْهَاهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وعن الإمام الصادق (ع): مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْهُ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ.
وعنه (ع): لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ وَلَا بِصِيَامِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَتّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ، وَلكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
البعض يحمل همّ أداء العبادة، وكأنها ثقل يريد التخلص منها، بأيّ طريقة كانت، دون أن يلتزم بالضوابط ومراعاة القيم والأخلاق، وهذا خطأ كبير ينشأ عن الجهل أو الغفلة.
اذن العبادات الصحيحة تربي الانسان على التزام القيم والاخلاق اذا التفت جيدا الى معانيها وغاياتها واهدافها، اما انها كيف تدرب الانسان على مراعاة النظام ، فنحن نعرف ان كلّ عبادة من العبادات لها توقيتها ونظامها، فلا تؤدّى حسب المزاج، وفي أي ّوقت، كما أنّ لها أحكامًا تفصيلية دقيقة، تربي الإنسان على الانضباط والتركيز والإتقان.
فمثلا: وقت صلاة الصبح من الفجر الى شروق الشمس ووقت صلاة الظهرين يبدأ عند زوال الشمس، ووقت صلاة المغربين يبدأ عند غروب الشمس وذهاب الحمرة المغربية فلا يصح أن تؤدى هذه الصلوات قبل وقتها، كما لا يجوز ان تؤخر الى خارج وقتها المحدد، او أن يتبرع الإنسان بزيادة ركعاتها. وهكذا بالنسبة للصوم والحج، فان لهما اوقاتا مخصصة، فالصوم مفروض في شهر رمضان، اما في غيره من الشهور فليس فريضة، وأداء فريضة الحج انما يكون في اوقات محددة من شهر ذي الحجة،وكلّ منسك في الحج له حدود ووقت وعدد، فالطواف معيّن بعدد، وكذا السعي، ورمي الجمار.
هذه الأحكام التفصيلية تربي الإنسان على النظام والانضباط والإتقان، حتى يكون ذلك نهجًا له في إدارة أمور حياته.
كذلك فإنّ العبادات لا تؤدى إلّا بنية وقصد، ليكون الإنسان في جميع شؤونه واعيًا لما يريد الإقدام عليه، وهادفًا فيما يمارس ويتصرف.
من جهة أخرى، فإنّ العبادات التي تؤدى بشكل جماعي مثل صلاة الجماعة أو الحج، فيها أحكام وآداب لأدائها الجماعي.
هناك أحكام تنظم علاقة إمام الجماعة وسائر المأمومين، وكذلك في الحج، حتى تكون العبادات في أجوائها الاجتماعية أنموذجًا للعلاقات بين أفراد المجتمع في سائر مجالات الحياة، وعنوانا للانتظام والانضباط والتقيد بالقوانين المرعية الاجراء على كافة الصعد.