الحلقة 37
- المجموعة: هدى القرآن
- 06 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2189
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
لا يزال الحديث حول الآيات المتعلقة ببني إسرائيل.
والمعروف أنه بعد أن حصل بنو إسرائيل على نعمة التحرر والنجاة نم استعباد وعذاب آل فرعون، أمر الله موسى أن يذهب ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة فلسطين للإقامة بها.
وقبل أن يطلب موسى منهم دخول فلسطين أرسل جماعة إلى فلسطين للاستطلاع وليأتوه بمعلومات عن العمالقة الذين سكنوا تلك الأرض وعن أحوالهم وأوضاعهم. فلما عادوا أخبروه أن أهلها أقوياء, طوال الهامات عمالقة, وأن مُدنها محصنة، فخاف بنو إسرائيل واستولى عليهم الفزع. فلما أمرهم موسى أن يتوجه بهم إلى فلسطين أبوا الطاعة وأصروا على عدم الذهاب، ما دام فيها قومٌ جبارون. وقالوا لموسى بكل صراحة: إن في هذه الأرض جبابرة لا طاقة لنا بهم فلن ندخلها ما داموا فيها, فإذا خرجوا منها فإنا نلبي طلبك وندخل إليها. وأكثر من ذلك فإن هؤلاء عندما نصحوا بمواجهة الظالمين ومحاربة العمالقة أعداء بني إسرائيل آنذاك في فلسطين قالوا لموسى بكل لؤمٍ وتمرد وجبن: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) فهم تركوا القتال لموسى وحده.
وهكذا كانت نهايةُ المطاف بموسى بعد كل ذلك الجهد الذي قدمه في سبيل تحرير بني إسرائيل وإصلاحهم، كانت نهاية المطاف أنهم أعرضوا عن دخول الأرض المقدسة فلسطين خوفاً من المواجهة مع العمالقة، وتمردوا على أوامر موسى التي هي أوامر الله.
تألم موسى لهذا الموقف الذي يظهر فيه بنو إسرائيل منتهى عنادهم وعصانهم فماذا يصنع موسى بعد كل هذا الجهد والجهاد في إصلاح قومه وبعد كل هذا التمرد المستمر منهم ولم يجد أمامه سوى أن يقف بين يدي الله ليشكوهم إليه, فدعا ربه إذ (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القومِ الفاسقين) المائدة/25. أي قال رب لا سلطان لي إلا على نفسي وأخي هارون فاقضي بعدلك بيننا وبين هؤلاء الفاسقين، فاستجاب الله له وأخبره بأن الأرض المقدسة محرمة عليهم وأنهم سيتيهون في الأرض في صحراء سيناء أربعين سنة فلا تأس ولا تحزن عليهم، وهكذا فقد كتب الله على بني إسرائيل الضياع أربعين عاماً في صحراء سيناء عقاباً لهم على تمردهم وخروجهم على طاعة الله وأمره.
مجموعة من هؤلاء التائهين والمعاندين، ندِمت على فعلها وعصيانها لأمر الله أشدَ الندم، وتضرعت إلى الله وطلبت منه العفو والصفح، فشمل الله سبحانه بني إسرائيل مرة ثانية برحمته وأنزل نِعمه مجددا ًعليهم, وقد أشارت الآية إلى بعض تلك النعم التي منَّ الله عليهم وهم تائهون في صحراء سيناء.
تقول الآية: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
فالآية تشير إلى نعمتين أنعمهما الله على بني إسرائيل في تلك المرحلة.
النعمة الأولى: تظليلهم بالغمام، (وظللنا عليكم الغمام) والذي نستوحيه من هذه الفقرة أن بني إسرائيل كانوا يعانون من شدة حر الشمس في الصحراء القاحلة التي لا ظل فيها ولا شجر, فأرسل الله عليهم الغمام وليستر عنهم حر الشمس، لأن الظل هو الستر، والغمام هو السحاب الابيض الذي يحجب السماء.
ويبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية، ليس من النوع العابر الذي يظهر عادة في سماء الصحراء ثم لا يلبثُ أن يتفرق ويزول، بل ربما يكون من نوعٍ خاص تفضل الله به على بني إسرائيل، ليستظلوا به المقدار الكافي الذي يستطيعون من خلاله ممارسة حياتهم من دون مشقة أو عناء من الحر.
وإذا استطعنا أن ندرك حجم المعاناة التي يعانيها الإنسان التائه في صحراء قاحلة لا وجود فيها لأي ظل، نستطيعُ أن نُدرك عظمة وأهمية هذه النعم الإلهية التي منَّ الله بها على بني إسرائيل عندما كانوا تائهين في الصحراء.
وأما النعمة الثانية التي تشير إليها الآية, فهي نعمة المنّ والسلوى التي أنزلها عليهم (وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم).
وهنا تعددت أقوال المفسرين في معنى هاتين الكلمتين: المَنَّ والسلوى.
بعض المفسرين قال: المن هو الإحسان والخير الذي ينزله الله على من ينعم عليهم ، هو إشارة إلى جميع النعم والخير من الله على بني إسرائيل، والسلوى: هو كل شيء يتسلى به الأإنسان في حياته من الرزق والنعيم والملك وما أشبه ذلك، يقال: فلان في سلوة من العيش، أي في سعة من العيش وفي نعيم وزرق كثير بحيث يتسلى به في حيانه.
وعلى هذا القول يكون معنى الآية: وأنزلنا عليكم الخيرات والبركات وجميع النعم التي مننا بها عليكم كما انزلنا عليكم كل ما يوجب سعة في العيش الكريم مما تحتاجونه في حياتكم.
ولكن هذا المعنى لا يمكن الإقتناع به لأنه يخالف ظاهر الآية، فإن ظاهر الآية بقرينة جملة (وكلوا من طيبات ما رزقناكم) يدلُ دلالة واضحة على أن المنَّ والسلوى نوعان من الطعام ونوعان من المأكولات لأن الله تعالى يقول: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) مباشرة بعد قوله: (وانزلنا عليكم المن والسلوى) مما يدل على أن المن والسلوى نوعان من الطعام.
وقد فسّر المن بأنه مادة لزجة حُلوة تُشبه العسل تقع على ورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها في طعامهم.
واحتمل بعض المفسرين أن يكون المن نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء سيناء عندما كانوا تائهين.
وأما السلوى فهو طير خاص سمين يشبه الحمام كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحمه.
وقد شاء الله بفضله وإحسانه، أن يُكثر من هذا الطير في صحراء سيناء آنذاك لسدِّ حاجةِ بني إسرائيل من اللحوم، وحيث إنه لم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة، لذلك اعتبرت هذه الأعداد الهائلة من هذا الطير نعمةً كبيرة أخرى أنعمها الله على بني إسرائيل.
وقوله تعالى: (وكلوا من طيبات ما رزقناكم) يدل على كثرة النعم والخيرات والبركات والأرزاق التي أنعمها الله على بني إسرائيل آنذاك.
ولكن بني إسرائيل قابلوا كل هذه النعم بالكفران والمعاصي، ولم يشكروا الله بل بقيوا على تمردهم وعنادهم وظلمهم وبغيهم الذي أساؤا به إلى أنفسهم.
والله يقول: (وما ظلمونا - أي بتمردهم وعصيانهم- ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). فإن من يكفر بالنعمة ومن يواجه نعم الله الكثيرة عليه بالمعصية والتمرد على الله، لا يضرُ إلا نفسه ولا يظلمُ إلا نفسه، لأن الكفر بالنعمة سيؤدي إلى انقطاع تلك النعمة وزوالها في الدنيا وسيؤدي إلى عذاب الله في الآخرة. فلذلك فإن المتضرر الوحيد من المعصية ومن كفران النعمة هو الإنسان وليس أحداً آخر.
وهذا هو الذي يريد القرآن أن يؤكده في وعي الناس، وفي عقول وأفهام الناس، وهو أنه عندما يكلف الله الناس بشيء، عندما يأمرهم بشيء أو عندما ينهاهم عن شيء، فإن الهدف من ذلك هو هداية الإنسان إلى الأشياء التي ينتفع بها وإلى الأشياء التي تدخل في مصلحته، وإبعادُه عن كل شيء يمكن أن يفسده ويضره في حياته، فعندما يتمردُ الإنسانُ على الله ويعصي الله ولا يستجيب لأمره او نهيه فإنه يكون قد ظلم نفسه وضرَّ نفسه وحياته، لا أنه أضر الله لأن الله لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين