الطلاق وآثاره الشرعية (64)
- المجموعة: هدى القرآن
- 02 شباط/فبراير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2704
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قُرُوء، ولا يحِلُ لهن أن يكتُمن ما خلق الله في أرحامهن إن كُنَّ يؤمِن بالله واليوم الآخر وبُعُولتُهن أحق بردِهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجةٌ والله عزيزٌ حكيم) ـ البقرة/ 228.
هذه الآية تشيرُ إلى عدة أحكام ومفاهيم تتعلق ببعض أوضاع النساء والمطلقات, ولا بد لنا من الحديث عما تشير إليه الآية في عدةٍ نقاط:
النقطة الأولى: إنه من الواضح ان الإسلام جوز الطلاق وانفصال الزوجين عن بعضهما, باعتبار أن الطلاق هو الإجراءُ الأخير لتفادي تفاقم المشكلات والخلافات التي قد تحدثُ في داخل البيت الزوجي والتي يعجز الزوجان أو الأقارب والمصلحون عن حلها, فيكون الطلاق هوالحل النهائي لمشكلة الرجل والمرأة معاً.
وما نريدُ أن نؤكد عليه في هذه النقطة هو أن الطلاق ليس حلاً تعسفياً غير طبيعي ولا عقلاني، بل هو حلٌ طبيعيٌ ينسجم مع طبيعة الأشياء وينسجمُ مع طبيعة أية علاقة إنسانية، تتعرض للاهتزاز والمشاكل اليومية، وتفقِدُ عناصر بقائها واستمرارها.
العلاقة بين الزوج وزوجته تشير في بعض خصائصها الى العلاقة بين اثنين في شراكة تجارية مثلاً، ومن الطبيعي أنه إذا حدثت خلافاتٌ بين الشريكين فإن من الصعب بقاء العلاقة فيهما بشكلٍ طبيعي ومعقول، خاصة إذا فقدت هذه العلاقة التجارية، العناصر التي تكفلُ استمرارها كالثقة والانسجام والتطابق في التفكير والهدف والطموح وما اشبه ذلك، فمثلاً لو أن هذين الشريكين اختلت ثقتهما ببعضهما البعض بحيث إن أحدهما لم يعد يثقُ بالآخر أو اكتشفا أنهما لا ينسجمان لا تفكيرهما ولا في أهدافهما ولا في طموحاتهما ولا في أي شيء فإنهما لو استمرا في شراكتهما وهما على هذه الحالة من الاختلاف وعدم الانسجام، فإن ذلك بالتأكيد سوف يتسبب للشركة بمشاكل وحوادث يومية, وقد يؤدي ذلك إلى وقوع بعض الخسارات والأضرار، ولذلك فإن الحل الطبيعي المعقول في مثل هذه الحال أن تُفسخ الشراكة بينهما وأن يذهب كل واحد منهما في طريقه، لئلا تتحول شراكتهما إلى جحيم لا يطاق لكل من الطرفين, هذا في الشراكة التجارية.
وهنا إذا جئنا إلى الشراكة الزوجية والعلاقة الزوجية فإننا نجد أن العلاقة بين الزوج وزوجته ترتكزُ على عنصرين أساسيين: على المودة وعلى الرحمة، أي على المحبة وعلى التعامل الرحيم فيما بينهما، فإذا استمرت العلاقة بين الزوج والزوجة على اساس المودة والرحمة يمكن لهذه العلاقة ولهذه الحياة أن تستمر بشكل طبيعي وسعيدٍ وهادئ, لكن إذا فُقدت الرحمة والمودة بين الزوجين وتحولت حياتهما مع بعضهما إلى مشاكل يومية مستمرة، وإلى جحيمٍ لا يطاق، بحيث بدل أن يعيشا المحبة والمودة، أصبحا يعيشان العداء والكره، وبدل أن يتعاملا مع بعضهما بشكل رحيم أصبحا يتعاملان بقسوةٍ وجفاء وأذية، وبحيث اكتشف أحدُ الزوجين أو كلاهما أن الانسجام بينهما مفقودٌ في أكثر من جهة، فإنه في مثل هذه الحالة إذا بُذلت محاولاتٌ للإصلاح بينهما وفشلت، يكون أمامنا أحدُ حلين:
إما أن نقول للزوجين استمرا على هذه العلاقة وعلى هذا النمط من الحياة، وليصبر كلُ واحدٍ على الآخر، وليرضى كلٌ منكما بحياته، وهذا حلٌ غيرُ عملي، لأن مسألة الزواج هي مسألة حياة يومية، والزوجان على احتكاك واتصال دائم ويومي ببعضهما فليس من الطبيعي أن نفرض على الزوجين الاستمرار في تحمل المشكلات والخلافات والضغوط النفسية إلى آخر العمر، لأن ذلك قد يؤدي إلى الانفجار وإلى تفاقم المشكلة أو حدوث ما لا تحمدُ عقباه، ولذلك لا يبقى أمامنا إلا الحل الثاني: وهو أن نقول للزوجين إن بإمكانهما أن ينفصلا وينطلق كلٌ منهما في طريقه، وهكذا يكون هذا الحلُ هو الحل الطبيعي والمعقول في مثل هذه الحالة.
ولكن لا بد من التأكيد هنا على أن الطلاق وإن كان حلالاً من الناحية الشرعية، إلا أنه اعتُبر من أبغض الحلال إلى الله كما ورد في الحديث، ولذلك فلا بد للإنسان الذي يريد أن يمارس هذا الحق أن لا يمارسه بشكل مزاجي وتعسفي ومن دون مبررات معقولة ولأدنى خلاف يحدث بينه وبين زوجته، لأنه وإن كان حلالاً إلا أنه الحلال الذي يبغضه الله, بمعنى أنه مكروه بحيث يصل في كراهته إلى أن يقترب من العمل المحرم، ومن الطبيعي أن الإنسان المؤمن الذي يرغب في الحصول على رضا الله ومحبته والقرب منه، لا يبادر إلى الطلاق نتيجة نزوة أو نتيجة حالة مزاجية طارئة أو لاسباب تافهة، بل لا بد أن يتروى قبل أن يُقدم على هذه الخطوة، وأن لا يلجأ إلى الطلاق إلا بعد أن يستنفذ كل الوسائل التي تحفظ العلاقة الزوجية، وتكفل استمرارها وبعد أن يصل إلى طريق مسدود بحيث يكون الطلاق هو الحل النهائي للمشكلة بين الزوجين، تماماً كما هي العملية الجراحية التي لا يلجأ إليها الإنسان إلا بعد وصول المرض إلى حدّ الخطر الذي لا يمكن أن يتفاداه الإنسان إلا بالعمل الجراحي.
النقطة الثانية: إنه إذا حصل الطلاق بين الزوجين، فإن المطلقة المدخول بها لا بد لها من العدة قبل أن تتزوج من إنسانٍ آخر، وعدتُها أن تنتظر ثلاثة قروءٍ بعد الطلاق، فإذا انتهت من القرء الثالث جاز لها أن تتزوج، وهذا ما أشارت إليه الفقرة الأولى من الآية: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).
فإن التربص بمعنى الانتظار، والقروء جمع قرءٍ، وقد اختلف المفسرون في معنى القرء فقال البعض: إن المقصود من القرء هو الحيض، وبناءاً على هذا المعنى، يكون معنى الآية انه لا بد للمطلقة من أن تنتظر ثلاث حيضات بعد الطلاق، فإذا انتهت من الحيضة الثالثة بعد الطلاق خرجت من العدة، وبالتالي جاز لها أن تتزوج، وقال البعض الآخر: إن المقصود بالقرء هو الطهر، والطهرُ يعني الأيام التي تكون فيها المرأة نقيةً وطاهرةً من العادة الشهرية، وعلى هذا المعنى يكون المراد من الآية أن المطلقة تنتظر بعد الطلاق إلى انقضاء الطهر الثالث فلا يحل لها أن تتزوج إلا بعد انتهاء أيام الطهر والنقاء الثالث, فتخرج من العدة عند بداية العادة الشهرية الثالثة بعد الطلاق، ولا يجب أن تنتظر حتى انتهاء الحيضة الثالثة.
إذن المطلقة لا بد لها من العدة والعدة هي المدة التي ذكرتها الآية وهي ثلاثة قروء. وما ينبغي أن نعرفه هنا هو أنه ما هي الحكمة من تشريع العدة؟ ولماذا يُفرض على المطلقة ان تعتدَّ هذه المدة قبل أن تُقدم على أي زواج آخر؟؟
والجواب: إنه قد تكون الحكمة من ذلك هي أن الله يريد أن يصون الأنساب ويحافظ على الأنساب من أجل أن لا تختلط، لأنه خلال هذه المدة مدة العدة يمكن أن يتضح وضع المرأة ماذا كانت حاملاً أو غير حامل، فإنه إذا مرت على المرأة ثلاث عادات شهرية بعد الطلاق يحصل اليقين بأنها غير حامل، وحينذٍ لا يبقى هناك مجالٌ للاشتباه, بينما اذا سُمح للمرأة أن تتزوج مباشرةً بعد الطلاق، فإن ذلك يؤدي إلى اشتباه المولود بين أن يكون من الزوج الأول وبين أن يكون من الزوج الثاني لأنه يمكن أن تكون حاملاً من الأول من غير معرفة بذلك. فلذلك قرر الإسلام رعاية للدقة والاحتياط وحفاظاً على الأنساب أن تعتد المرأة بعد الطلاق بهذه المدة ليحصل اليقين بعدم الحمل.
وقد تكون هناك حكمةٌ أخرى، لتشريع العدة وهي: أن الإسلام أراد أن يعطي فرصةً للزوجين خلال هذه المدة ليعيد النظر في قرار الطلاق ومن أجل أن يفكرا بهدوء في حسنات وإيجابيات اللقاء وفي مشاكل وسلبيات الطلاق والافتراق، بعيداً عن حالات التوتر والمشاكل، لأن الإنسان عندما يعيش في جو المشكلة ويكون فيها قد لا يستطيع أن يفكر بطريقةٍ سليمة فيحاول أن يتخلص من المشكلة بأية طريقةٍ ولا يفكرُ في نتائج قراره, لكن إذا انفصل عن المشكلة ولو لفترة بسيطة خلال العدة فإنه قد يستطيع أن يفكر بشكل هادئ وموزون وبعقل منفتح، فيعود إلى اتخاذ القرار السليم، فلأجل ذلك تأمر الآية أن تعتد المرأة المطلقة تلك المدة، من أجل أن يأخذ فرصةً للتفكير والتفاهم والإصلاح وتعود إلى القرار السليم.
ومن هنا فقد قرر الإسلام عدم إخراج المرأة المطلقة من مسؤولية الرجل خلال فترة العدة، وفرض عليه أن يُنفق عليها وأن لا يخرجها من بيتها وذلك من أجل أن يوفّر الأجواء اللازمة لعودة الحياة الزوجية كما كانت.
إن تشريع العدة هو تأكيدٌ آخر على أن الإسلام ارد للعلاقة الزوجية بين المرأة والرجل ان تستقر وأن تدوم ولم يشجع على الطلاق إلا بعد استنفادِ كل الوسائل المؤدية إلى التفاهم والإصلاح واستمرار الحياة الزوجية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين