ملامح شخصية المنافقين وأصحاب الكلمات المعسولة(58)
- المجموعة: هدى القرآن
- 27 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3272
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام, وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرثَ والنَّسل والله لا يحب الفساد, وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزة بالإثم فحسبُه جهنمُ ولبئس المِهاد, ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد).
في هذه الآيات نقف أمام نموذجين ونوعين من الناس تجاه قضايا الحق والعدل والإيمان، وهذان النموذجان قد لا يخلو منهما زمان ولا مكان: نموذجُ الإنسان المنافق الذي يتظاهرُ بالإيمان والحب والمودة ولكنه يُبطن النفاق ويخفي العداء للحق, ونموذجُ الإنسان المؤمن المخلص الذي باع نفسه لله ابتغاء مرضاة الله.
الآيات الثلاث الأولى تبينُ ملامح شخصية النموذج الأول المنافق, وأسلوبه وطريقته في الحياة، فتقول: إن هذا النوع من الناس له عدة صفات:
الصفة الأولى: أنه مخادع، فهو يُظهر لك الإيمان، ويتقن صناعة الكلمات الحلوة ويوحي إليك أنه الإنسان الطيب والصادق والمصلح والمحب الذي يحب لك وللناس الخير, وكأنه قطعةٌ من الطهارة والإخلاص، فتستحسن كلماته وأقواله وأساليبه الناعمة, وتعجبك براعته وحسن أدائه، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح والإيمان, ومن أجل أن يؤكد لك صدقه في كل ما يقول، يُشهد الله على ما في قلبه من المحبة والإيمان, أي يجعل الله شاهداً على ما في قلبه، ويحلف بالله أن باطنه منسجمٌ مع ظاهره وأنه لا يحمل في قلبه إلا النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للناس حياتهم، ولكنه في الواقع عندما تنفُذ إلى داخله تُدرك أنه من أشدِ الناس عداوةً للمؤمنين ولنهجهم الذي يمثل نهج الحق، فهو مخادع يحاول أن يستغل طيبة الناس وبساطتهم وصدقُهم ليتوصل من خلال أسلوبه المخادع إلى ما يريده من مالٍ وجاءٍ وشهوةٍ وموقعٍ ومصلحة ذاتية خاصة، وإلى هذه الصفة أشارت الآية الأولى وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قبوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام) أي وهو شديدُ الخصومة والعداوة.
والصفة الثانية: هي ما أشارت إليه الآية الثانية وهي قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)، أي أن المنافق إذا تولى عنك أي أعرض عنك وانصرف من عندك بعد أن أظهر أمامك الإيمان والكلمات المعسولة، إذا انصرف من عندك سعى في الأرض على خلاف ما يقوله، وعلى عكس ما يتكلم به أمامك، فهو يدّعي الإصلاح أمامك، ولكنه عندما ينصرفُ ويغيبُ عنك، يسعى في الأرض بالفساد والخراب، وهو يدعي امامك المحبة والإخلاص لك، ولكنه عندما ينصرف عنك يسعى في الكيد لك والإضرار بك ينطلقُ بعيداً عنك ليدمر مصالحك ومالك ومواردَك وليثير المشاكل في حياتك.
وقد يكون المراد بقوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض) انه إذا تولى أي إذا حكم, لأن التولي من الولاية بمعنى الحكومة والسلطة، وبناءاً على ذلك يكون معنى الآية أن المنافق إذا حكم وأصبح واحداً من أهل السلطة، فعل ما يفعله الحاكم الجائر ومارس ما يمارسه أصحاب السلطة الظالمة من الفساد بالأرض، فهو إذا تولى وحكم يعملُ الأعمال التي تفسدُ الناس أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. (ويهلك الحرث والنسل) أي يحطمُ جميع المصالح الاقتصادية من زرع وصناعةٍ ومواشٍ ومواد أولية وغير ذلك مما يتصل بحياة الناس ومعيشتهم.
وقد يكون المقصود بالحرث هو الدين, والنسل هو الإنسانية, كما ورد في بعض الروايات، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن المنافق إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها وليعمل الاعمال التي تؤدي إلى محو الدين كالتحريف في مفاهيم الدين والتغيير في أحكامه، وعمل أيضاً الاعمال التي تؤدي إلى هلاك الإنسانية كقتل الناس ظلماً وعدواناً.
والصفة الثالثة للمنافق: هي التعصب والعناد والشعور بالفوقية التي تبلُغ بصاحبها إلى أعلى درجات الإثم، فالمنافق إنسانٌ عنيد إذا وقف أمامه الناصحون والناقدون لينصحوه ويبينوا له خطأ النهج الذي ينتهجه في السياسة وفي الإدارة وفي الاقتصاد والاجتماع وفي حساب الأولويات, مثلاً: إذا وقف أمامه المصلحون ليعظوه ويوجهوه إلى طريق التقوى والصلاح والخوف من الله فيما يفعلُه بالعباد والبلاد من الفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أخذته العزة بالإثم، أي أنه تمسك بالخطأ وبالأسلوب والنهج الخاطئ الذي يمارسه في الحكم والسلطة وفي الحياة العامة، واعتز بذلك الفساد وبتلك الأعمال السيئة التي يعملها, فهو يعتز بالإثم بدل أن يعتز بالحق، ولذلك فهو لا يستمعُ إلى النصائح ولا يأخذ بالمواعظ ولا يلتفت إلى النقد البناء الذي يوجه إليه، بل يستكبر ويعتبر نفسه فوق النقد والنصيحة وفوق أن توجَّه إليه الملاحظات، فهو الذي يوجِّه الآخرين وهو الذي يعطي للآخرين برنامج العمل ويحدد لهم مسيرة الحياة، ولا يجوز لأحد أن يحدد له برنامجه ونهجه في الحكم والسياسة والاقتصاد وملاحظة الأولويات.
هذه هي صفة المنافق الذي يغترُ بنفسه ويتمحورُ حول ذاته ويجعل نفسه مقياساً للحق، والإصلاح، وإلى هذه الصفة أشارت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: (وإذا قيل له اتقِ الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المِهاد). أي تكفيه نار جهنم جزاءاً على عمله، ولبئس هذا الموضعُ الذي مهّده لنفسه بعمله وفساده.
هذه هي صورة النموذج المنافق في شخصيته وصفاته كما عرضتها الآيات الثلاث التي قرأناها في مطلع الحديث.
هذه الصفات الثلاث تمثلت في الماضي في شخصيات تاريخية بارزة، وهي تتمثل في حاضرنا وفي واقعنا في شخصيات سياسية واجتماعية بارزة أيضاً، هذه الصفات تمثلت في شخصية تاريخية، كانت سبباً لنزول هذه الآيات ومناسبةً للحديث عن صفات هذا النموذج من الناس بصورةٍ عامة.
هذه الشخصية يقال لها الأخنسُ بن شُريق، فقد ورد في سبب نزول الآيات أن هذا الرجل جاء إلى النبي (ص) في المدينة المنورة، وكان رجلاً وسيماً عذب البيان طلِقَ اللسان فتظاهر أمام النبي بالإسلام وبحب الرسول وكان كلما جلس عند النبي (ص) يُقسم بالله على إيمانه وعلى حبه للرسول ولنهج الحق، وكان يشهد الله على ما في قلبه من الإيمان والمحبة للناس، وكان الرسول يعاملُه بحسب ظاهره فيغدقُ عليه من لطفه وحبه، ولكنه عندما خرج هذا الرجل من عند النبي مرَّ على مزرعة تخصُ جماعةً من المسلمين فأحرقها وخرب محتوياتها، وأباد أنعامها ومواشيها، وبذلك أظهر حقيقة شخصيته وكشف عما كان يُبطنه ويخفيه من النفاق، فأنزل الله هذه الآيات بشأنه، ليبين لنا من خلال هذه الشخصية صفات النموذج المنافق من الناس الموجود في كل زمان ومكان.
وما يمكن أن نستفيده من الآيات الثلاث الأولى بشكل مختصر هو:
أولاً: إن على الإنسان أن لا يُخدع بالظواهر، وأن لا يثق بمن يتقنُ صناعة الكلمات المعسولة، فإن المنافقين متخصصون بهذه الصناعة وبعملية الرياء، وبإظهار خلاف ما يُضمرون, ولذلك فإن علينا أن لا نعتمد على أحدٍ إلا بعد التجربة وقيام الدليل على صدقه ونزاهته وإخلاصه، وهذه قاعدة عامة تدخل في مختلف جوانب حياتنا السياسية والإدارية والاجتماعية وغيرها.
وثانياً: إن على الإنسان أن لا يقف بوجه النقد والنصيحة مهما كان شأنُه وموقعه في الحياة، بل إن عليه أن يتقبل النُصح والنقدَ البناء, بل إن عليه أن يطلب ذلك ويرحب به إذا كان هدفه أن يصل إلى الحق والعدل، وأن يحقق مصالح الناس، فليس هناك أحدٌ منا بأعظم من أمير المؤمنين عليٍ (ع) الذي يقول في خطبة له في أيام خلافته: وليس امرؤٌ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته، بفَوقِ أن يُعان على ما حمّلهُ الله من حقه، ولا امرؤٌ وإن صغَّرته النفُوس واقتحمته العيون بدون أن يُعين على ذلك أو يُعان عليه, ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يُقال له أو العدل أن يُعرضَ عليه، كان العمل بهما أثقل عليه) نهج البلاغة / الخطبة 216.
والشيء الثالث الذي نستفيده من الآيات: هو أن علينا أن نكشف النموذج المنافق من الناس، ونعمل على رفضه ومواجهته من أجل إزاحته من واجهة الحياة، لتخليص الناس من فساده وبغيه واستكباره.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين