توثيق المعاملات المالية في التشريع (68)
- المجموعة: هدى القرآن
- 06 شباط/فبراير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4281
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) البقرة/ 282.
في هذه الآية جولة تشريعية حول أحكام الدين وما ينبغي توثيقه وإثباته من العقود والاتفاقات المالية من أجل أن لا يكون هناك مجال لإنكاره من قبل الذي عليه الحق في الحالات التي لا يوجد هناك أيُ مستند لصاحب الحق على الذي عليه الحق.
وقد وضع الله في هذه الآية برنامجاً عملياً إرشادياً أراد من خلاله أن ينظم للإنسان علاقاته المالية وشؤونه المالية لئلا يقع في خلافات ونزاعات مستقبلية على هذا الصعيد.
وقد تضمن هذا البرنامج العملي الذي وضعته الآية عدة بنود من التعليمات والأحكام نذكرها هنا باختصار:
البند الأول: إنه إذا أقرض شخصٌ مالاً أو بضاعة أو أي شيء لشخص آخر، أو عقد شخصٌ مع شخص آخر عقداً بحيث كان أحدُهما مديناً للآخر بمال أو ببضاعة أو بعقار أو بمنفعة, فلكي لا يقع ايُ سوء تفاهمٍ واختلاف بين الطرفين في المستقبل، فإنه ينبغي أن يُكتب بينهما ما اتفقا عليه من العقد بتفاصيله وشروطه، بحيث يكون حق كل واحد منهما مثبتاً وموثقاً وواضحاً في ضمن العقد، وهذا ما أشارت إليه الفقرة الأولى من الآية: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه).
ومما ينبغي أن نلتفت إليه هنا أنه ليس المقصود بالدين في الآية القرض فقط, بل المقصود بالدين كل معاملة بحيث يكون أحدُ الطرفين فيها مديناً للطرف الآخر سواء كانت معاملة بيع أو شراء أو إيجار أو استثمار أو قرض أو غير ذلك. وعليه فالأمر بكتابة العقد يشمَلُ جميع المعاملات التي فيها دين يبقى في ذمة المديون بما في ذلك القرض، فكل تعامل من هذا القبيل، كل بيع كل تجارة كل استثمار يكون فيه أحد الطرفين مديناً للآخر ينبغي كتابته وتوثيقه وإثبات الحق فيه تلافياً لأي نزاع في المستقبل.
البند الثاني: إنه لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخل أحدهما فيه فإنه ينبغي أن يكون كاتب العقد بينهما شخصاً ثالثاً، وعلى هذا الكاتب أن يقف إلى جانب الحق وأن يكتب حقيقة ما اتفقا عليه بدون زيادة أو نقصان، كما أن عليه أن لا يمتنع عن الكتابة إذا دعي إليها، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الامر وأن يكتب لهما الاتفاق بالعدل، وإلى هذا أشار المقطع الثاني من الآية (وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله). إن تعبير (كما علمه الله) قد يشير إلى أن على الكاتب بالعدل أن يلتزم الأمانة وأن يكتب العقد كما علمه الله كتابة متقنة وفق أحكام العقود وشروط التعامل، لا أن يتلاعب في كتابة العقد بحيث يجعل لأحد الطرفين نافذة للهروب من الحق الذي عليه.
البند الثالث: إن على أحد الطرفين المتعاملين أن يملي تفاصيل العقد والاتفاق على الكاتب, ولكن أي الطرفين الذي ينبغي أن يملي على الكاتب؟ تقول الآية: إن الذي يملي على الكاتب نص الاتفاق هو المديون الذي عليه الحق, لأن التوقيع المهم هو توقيعه, ولذلك فإن العقد الذي يكتب بإملاء الذي عليه الحق يعتبر مستمسكاً عليه لا يمكن له أن ينكره أو يتملص منه، تقول الآية إشارة إلى هذا البند: (وليملل الذي عليه الحق)، ثم تقول الآية: (وليتق الله ربه ولا يَبْخس منه شيئاً)، أي أن على المديون الذي عليه الحق عندما يملي على الكاتب أن يضع الله نُصب عينيه فلا يترك شيئا من الحق الذي عليه إلا ويذكره للكاتب من أجل أن يكتبه من دون أن ينقص منه شيئاً.
البند الرابع: إنه إذا كان المديون الذي عليه الحق سفيهاً, أي يعجز عن إدارة شؤونه وأمواله ولا يميز بين ما ينفعه وما يضره، أو كان ضعيفاً أي قاصراً في عقله مثلاً كالمجنون، أو كان لا يستطيع أن يملي الحق الذي عليه، لكونه أخرساً لا يقوى على النطق مثلاً, فإنه في مثل هذه الحالات، على وليه كأبيه مثلاً، أن يملي العقد على الكاتب فيكتب الكاتب بموجب أملائه، وفي هذه الحالة فإن على الولي أن يعترف بالدين وأن يلتزم العدل في ذلك كله.
تقول الآية إشارة إلى هذا البند: (فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً ولا يستطيع أن يملي هو فليملل وليه بالعدل).
البند الخامس: إن على الطرفين المتعاملين أن يستشهدا بشاهدين على المعاملة التي بينهما ويجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) اي ممن هم على دينكم، ويجوز اختيار شاهدين من النساء وشاهدٍ واحد من الرجال، ولا بد أن يكون الشاهدان موضع ثقة وممن يطمئن إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي العدالة التي تشترط في الشاهد كما جاء في الأحاديث تقول الآية: (فإن لم يكن رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء).
وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد بشكل منفرد على المعاملة، أما إذا كانوا رجلاً واحداً وامراتين فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً وليس بشكل منفرد, وذلك من أجل أن تذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت في شيء.
أما سبب اعتبار شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد فهو لان المرأة إنسان عاطفية وقد تقع تحت تأثير أحد الطرفين خاصة عندما تجد أحد الطرفين فقيراً أو ضعيفاً, فإن عاطفتها قد تتجه إليه فتشهد له بالحق مع أن الحق مع غيره، لذلك وجود امرأة أخرى معها في الشهادة يمنعها من أن تتأثر عاطفياً بحيث إنه إذا أردات أن تشهد لمن ليس له حق بالحق جاءت الأخرى لتذكرها بأن عليها أن تشهد لصاحب الحق وأن لا تنحرف في الشهادة, وهذا هو معنى قوله تعالى: (أن تضل أحداهما فتذكر أحداهما الأخرى).
البند السادس: إن على الشهود إذا دعوا إلى الإدلاء بالشهادة أن يستجيبوا من دون تأخير أو مماطلة، وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يتحقق العدل إلا بالإدلاء بالشهادة, تقول الآية: (ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا).
البند السابع: إنه سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً قليلاً أو كثيراً فإنه تجب كتابة لأن الإسلام يريد أن لا يقع أي نزاع في الشؤون التجارية والمالية حتى في العقود الصغيرة التي قد تؤدي إلى مشاكل كبيرة، وهذا ما اشارت إليه الآية بقوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً)، والغاية من ذلك أن الدقة في تنظيم العقود والاتفاقات حتى الصغيرة منها، تضمن من جهة تحقيق العدالة كما أنها تطمئن الشهود من جهة أخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن والشك بين افراد المجتمع تقول الآية: (ذلكم ـ أي كتابة العقود وإن كانت صغيرة والاشهاد عليها- أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا).
البند الثامن: تقول الآية إنه إذا كان التعامل بين الطرفين بشكل نقدي بمعنى أنهما تداولا التجارة نقداً بأن باع أحدهما للآخر شيئاً وقبض البائع الثمن نقداً وأخذ المشتري السلعة حالاً، ففي مثل هذا التعامل النقدي لا حاجة إلى الكتابة لأن الحاجة إلى الكتابة إنما تكون في الحالات التي يبقى فيها أحد الطرفين مديناً للآخر، أما إذا تعاملا بشكل نقدي وأخذ كل منهما حقه فلا حاجة إلى الكتابة, إلا أنه لا بد من شهود تلافياً لأي التباس يحصل. تقول الآية: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ـ إذا كان التعامل بينكم بشكل نقدي ـ فليس عليكم جناح ألا تكتبوها واشهدوا إذا تبايعتم) أي لا بد من شهود على البيع والتعامل النقدي وإن لم يحتاج إلى كتابة.
وآخر حكم تذكرة الآية هو أنه ينبغي أن لا يصيب كاتب العقد أو الشهود أيُ ضرر بسبب تأييدهم للحق وللعدالة، (ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد) فإذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً أو أساء الى شاهد أو كاتب أو ألحق ضرراً بكاتب أو شاهد لمجرد قوله الحق فقد أثم وارتكب ذنباً وفسقاً يخرج الإنسان عن خط الله وخط طاعته, تقول الآية: (وإن تفعلوا ـ اي تلحقوا الضرر والأذية بكاتب أو شاهد لقوله الحق ـ فإنه فسوق بكم) أي أن ذلك انحرافاً وأثماً يوجب الفسق.
وبعد كل تلك الأحكام والتعليمات والتوجيهات الإرشادية تدعو الآية جميع الناس إلى التزام التقوى والامتثال لأوامر الله وتعاليمه, لأن الله يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم, ويعلمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم المادية والمعنوية ويقرر ما هو الصالح لكم والله بكل شيء عليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين