النبي (ص) كيف نظّم العسكر وأسّس للجهاد في سبيل الله ؟!(38)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 02 تشرين1/أكتوير 2013
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4488
النظم العسكرية في سيرة النبي (ص) (38)
بعد أن استقر النبي (ص) في المدينة ورتب أوضاعها الداخلية, أقدم على خطوة أخرى على طريق بناء الدولة, وهي خطوةُ الإعداد العسكري إعدادِ القوة البشرية المدربة, وإعدادِ السلاح والخيل وغير ذلك مما تحتاجه القوةُ المسلحة, هذا الاعدادُ الذي أمر الله به في قوله تعالى: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوَّكم, وآخرين من دونهم" / الأنفال - 60.
ويقول المؤرّخون: إنّ رسول الله (ص) شرع بعد دخوله المدينة بستة أشهر تقريباً بتشكيل السرايا والوحداتِ العسكرية المسلحة, وعيّن القادةَ وأمراءَ السرايا وأرسلهم في مهمات عسكرية واستطلاعيّة بعد أن أذن اللهُ له بالقتال والجهاد في قوله تعالى: "أُذن للذين يُقاتَلُون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير, الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُنَا الله ولولا دفعُ الله الناسَ بعضََهم ببعض لهدّمتْ صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكرُ فيها اسمُ الله كثيراً ولينصرنّ اللهُ من ينصُرُه إن الله لقويٌ عزيز, الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاةَ وأَتَوا الزكاةَ وأمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر ولله عاقبةُ الأمور" ( الحج – 39,40).
ويُلاحظُ هنا أن النبي (ص) كان إذا أراد أن يبعث سريةً في مهمة قتالية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول لهم: "سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله, ولا تغلوا ولا تمثلوا, ولا تغدروا, ولا تقتلوا شيخاً فانياً, ولا صبياً, ولا امرأة, ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها, وأيّما رجلٍ من أدنى المسلمين أو أفضلِهم نظر إلى رجل من المشركين, فهو جارٌ - أي آمنٌ وفي مأمنٍ - حتى يسمعَ كلامَ الله, فإن تبعكم فأخوكم في الدين, وإن أبى فأبلغوه مأمنه, واستعينوا بالله عليه". وروي أنه (صلّى الله عليه وآله) ما بيّت عدواً قط وكان إذا بعث سريّةً أو جيشاً بعثهم أولَ النهار.
وللمؤرخين اصطلاحانِ في المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبي(ص) اصطلاحُ الغزوة واصطلاحُ السرية, ويقصدون بالغزوة: الجيش الذي يخرج فيه النبيُ نفسُهُ ويتولى هو قيادتَه, اما السرية: فيقصدون بها الوحدةَ العسكرية التي لا يكون رسولُ الله فيها وإنما يكون فيها أحدُ القادة أو الأمراء من الصحابة.
وقد أحصى المؤرخون مجموعَ الغزواتِ والسرايا التي قام بها المسلمون في حياة النبي(ص) فبلغ مجموعُ ذلك على رواية سبعاً وستّين غزوةً وسريّة وعلى رواية أخرى: خمساً وسبعين غزوةً وسريّة, وقد جرت هذه الغزوات والسرايا في أقلَّ من عشرِ سنوات وهي المدةُ التي عاش فيها النبيُ بعد الهجرة إلى المدينة.
وتدلّ النصوصُ المتفرقة على أنّ هذه الإنجازاتِ العسكرية الضخمة بالقياس إلى الفترة الزمنية القصيرة, والظروفِ الصعبة, كانت تستندُ إلى تنظيم دقيق واسعِ النطاق أهملَ المؤلفون في السيرة النبوية العنايةَ به.
وما يمكنُ استفادتُهُ من الروايات المتفرقة فيما يتعلق بتنظيم القوةِ العسكرية وإدارةِ الوحدات العسكرية والمعاركِ الدفاعية في عهد النبي (ص) هو الملامحُ التالية:
أولاً: ان القرار العسكري الإستراتيجي والتكتيكي كان بيد النبي وحده, ولم يكن لأحد من المسلمين سلطةَ اتخاذِ قرارٍ عسكري في غزوة أو سرية بشكل منفرد ومستقل بعيداً عن النبي (ص), نعم من الثابت أن النبي (ص) كان يستشير أصحابه, وكان يستمع بعناية لاعتراضاتهم العسكرية ولكن القرارَ العسكريَ النهائيَ كان للنبي وحده. وهناك أمثلة عديدة يذكرها المؤرخون.
وثانياً: كان النبيُ يشكلُ الجيشَ والوحداتِ العسكرية من الذكور البالغين, وكان يختار للجندية الذين بلغوا خمسَ عشرَة سنةً من العمر ولم يكن يقبلُ في عداد الجيش من لم يبلغ هذه السن. وورد في بعض الروايات أنّ النبي كان يستعرض شبانَ الأنصار في كل عام, وسمحَ لمن تثبُتُ لياقتُهُ البدنية بالانخراط في الجيش والمشاركةِ في الجهاد. وكان شبانُ المدينة المنورة يتدربون على استعمال السلاح, وفنونِ القتال, وكان في المدينة مكانٌ مخصصٌ لهذه الغاية أي معسكرٌ خاصٌ للتدريب. وقد ثَبَتَ عن رسول الله (ص) أنه أمر بالتدرب على الفروسية والرمي وقال فيما روي عنه: "علموا أولادكم السباحةَ والرمايةَ وركوبَ الخيل". وعلى أي حال فقد كان التدربُ على السلاح وفنونِ القتال, من مقوّماتِ الثقافةِ العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك, بحيث كان يُعتبرُ غيرُ الخبير بفنون القتال شاذاً عن النمط العام.
ثالثاً: لم يظهر من نصوص السيرة النبوية أن النبي أسسَ جيشاً متفرغاً على غرار ما يسمى الآن الجيشَ المحترف وهو تفرّغُ عددٍ من المقاتلين لحياة الجندية مدةً من الزمن في حال السلم, وإنّما كان الانخراطُ الفعلي في العمل العسكري يتمُ حين تدعو الحاجة أي حين يقرر النبيُ القيامَ بحملة عسكرية, أو حين يتهددُ المدينةَ خطرُ الغزو.
نعم, يبدو من بعض الروايات أن بعضَ المسلمين كان متفرغاً للقتال والجهاد وهم أهلُ الصُفَّة, وأهلُ الصُفَّة هم مجموعة من الفقراء الذين كانوا قد هاجروا من مكةَ الى المدينة ولم يكن لديهم بيوتٌ خاصة في المدينة وإنما كانوا يسكنون إلى جانب المسجد النبوي في مكان يسمى الصُفَّة. فإن هؤلاء بسبب عدم وجود أُسرٍ لهم وبيوت خاصة تأويهم, وبسبب عدمِ انخراطهم في سوق العمل والتجارة كانوا شِبْهَ متفرغين للجهاد.
ويذكرُ المفسرون في تفسير قوله تعالى: للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض/ البقرة - 273, ان هذه الاية نَزَلَتْ في أهل الصُفّة: وهم أربعمئةِ رجلٍ من المهاجرين تفرغوا لتعلم القرآن والخروجِ مع السرايا, ومعنى ( الذين أُحصروا في سبيل الله ) أي حَبَسُوا أنفسَهم على الجهاد وتفرغوا دائماً للقتال في سبيل الله, ومعنى قولهِ تعالى ( لا يستطيعون ضرباً في الأرض ) أي لا يستطيعون الدخولَ في اعمال تجارية لانشغالهم في الجهاد في سبيل الله .
وعلى أي حال فان هناك الكثيرَ من النظم العسكرية في سيرة النبي غيرَ ما ذكرنا من قبيل إحصاء عدد المسلمين لأغراض عسكرية ومن قبيل التسليح العسكري والصناعات العسكرية والتجسس العسكري وغيرِ ذلك من الملامح التي تكشف عن دقة التنظيم العسكري في عهد النبي (ص) . ولا شك أن النظم العسكرية التي قام بها النبي(ص) ساهمت الى حدٍ كبير في تحقيق انجازات عسكرية كبرى وفي تحقيق انتصارات كبيرة في مدة زمنية قصيرة نسبياً.
الشيخ علي دعموش