في حجة الوادع :" لا تَرجَعُنَّ بعدي ضُلالاً يقتل بعضُكم بعضاً.."(68)
- المجموعة: لبيك يا رسول الله2
- 03 تشرين2/نوفمبر 2013
- اسرة التحرير
- الزيارات: 7205
حجّة الوادع (68)
عندما حلَّ شهرُ ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة – وهو الشهرُ الذي يسبق شهر الحج – أعلن النبي (ص) عن عزمه على زيارة مكة لأداء فريضة الحج، ودعا الناس إلى الخروج معه، فانتشر الخبرُ في المدينة المنورة وفي أنحاء الجزيرة العربية، وهُرَعَ المسلمون إلى المدينة من كل البلاد والمناطق التي دخلها الإسلام، ونُصبتِ الخيامُ فيها لعشرات الألوفِ من الناس.
وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة تحرك موكبُ النبي (ص) من المدينة تحيطُ به تلك الألوفُ التي بلغت حَسَبَ بعض المؤرخين تسعين ألفاً أو أكثرَ من مئة ألف، قاصدين مكة لأداء فريضة الحج مع النبي (ص)، وقد اصطحب الرسول (ص) معه نساءَه وابنتَه فاطمةَ الزهراء (ع).
وقد سمى أكثرُ المؤرخين هذه الحِجة بحِجة الوداع، لأن النبي (ص) لم يحُجَّ بعدَها وقد ودَّعَ الناسَ فيها ولمّحَ إلى دُنُوّ أجله وكان مما قاله لهم: "أيها الناس، يوشِك أن أُدعى فأُجيب".وبعدما وصل الموكبُ إلى مكةَ انطلق آلافُ المسلمين يؤدون مناسكهم وأعمالَهم كما بينها لهم رسول الله (ص)، ورأى النبي (ص) أن يستفيد من هذا التجمع الكبير الذي لم تشهدْ له مكةُ نظيراً من قبل، فألقى خطاباً شاملاً في "منى" في يوم عيد الأضحى أكد فيه التعاليمَ والمفاهيمَ والقيمَ التي بُعث من أجلها.
وهنا نذكر بعض ما جاء على لسان النبي (ص) في تلك الخطبة العظيمة من أجل الاستفادة وأخذِ العبرة.
قال (ص) بعد أن حَمِدَ اللهَ وأثنى عليه:
"أيها الناس، إسمعوا مني ما أُبيِّنُ لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عاميْ هذا في موقفي هذا. إن دماءكم وأموالَكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقَوْا ربَّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وبلدِكم هذا، ألا ومن كانت عنده أمانةٌ فليُؤدِهَا إلى الذي ائتمنَهُ عليها.. ثم قال (ص): أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاعَ فيما سوى ذلك مما تُحقِرون من أعمالكم..
وفي نص آخر: أن النبي (ص) عندما وقف خطيباً في جموع الناس في منى يوم عيد الأضحى سألهم – سؤالاً تقريرياً وليس استفهاماً حقيقياً – فقال لهم: أيُّ يوم هذا؟ قالوا: يومُ النحر. قال: أيُّ شهر هذا؟ قالوا: الشهرُ الحرام قال: أي بلد هذا؟ قالوا: البلدُ الحرام. فقال (ص): إن حرمة دمائكم وأموالكم – وربما قال – وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا لا تَرجَعُنَّ بعدي ضُلالاً أو قال كُفاراً يقتل بعضُكم بعضاً، أو يضربُ بعضُكم أعناقَ بعض، وفي بعض الروايات – ويلعن بعضُكم بعضاً – ألا فليبلغ الشاهدُ الغائبَ فلعل من يُبَلَّغُهُ أوعى ممن يسمَعُه".
هذه بعض الكلمات التي قالها رسولُ الله (ص) لمن حضر في منى في السنة العاشرة للهجرة، ولكنه أراد لنا نحن أن نسمع ذلك، وقد بَلَغَنَا ذلك، فكيف نواجه الموقف؟.
إن النبي (ص) كان النموذجَ الإسلاميَ الكامل، بل كان يتحدث عن المسلمين الذين قد يختلفون في كثير من ممارستهم للإسلام، والذين قد يختزنون الكثير من نقاط الضعف في بعض ما يفكرون وفي بعض ما يعملون، فهنا لا بد للمسلمين مهما اختلفوا مذاهبَ وطوائفَ وأفكاراً من أن يلتقوا على كلمة الإسلام لينصروا الإسلام.
واللهُ سبحانه وتعالى كما رسولُهُ (ص) يريدنا أن لا يَسُبَ بعضُنا بعضَاً وأن لا نتلاعن، لأنه أنكر على المسلمين أن يسبوا الذين يدعون من دون الله، وذلك لأن الفعل السلبي ضد الآخر لا يُولّدُ إلا رَداً سلبياً ضد مقدساتك: فقد قال تعالى {ولا تَسُبُّوا الذين يَدعون من دون الله فيسُبُّوا اللهَ عَدْواً بغير علم، كذلك زينَّا لكل أُمةٍ عملَهم} الأنعام/108.
وهكذا نقرأُ في نهج البلاغة أن علياً (ع) سمع قوماً من أهل العراق يَسُبُون أهلَ الشام فقال (ع): "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوبَ في القول وأبلغَ في العذر وقلتم مكان سبكم إياهم ربنا احقنْ دماءَنا ودماءَهم وأصلح ذات بيننا وبينِهِم واهدِهِم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَ من جهله ويرعوي عن الغي والعُدوان من لَهِجَ به".
ويقول النبي (ص) في خطبة حِجة الوداع نفسِها:
"أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً، لكم عليهن أن لا يُوْطِئْنَ فراشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحداً تكرهونه بيوتَكم إلا بإذنكم، ولا يَأتِينَ بفاحشة.. فإن فعلنَ ذلك فإن الله قد أَذنَ لكم أن تهجروهنَ في المضاجع وتضربوهنَ ضرباً غيرَ مُبَرِّحٍ، فإن انتهين وأطعنَكم فعليكم رزقُهُنَ وكسوتُهُنَ بالمعروف، إنما النساء عندكم عَوَانٌ – أي أسرى – لا يَملِكنَ لأنفسهن شيئاً، أخذتموهُنَ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهُنَ بكلمة الله فاتقوا الله في النساء، واستوصُوا بهِنَّ خيراً.
أيها الناس، إنما المؤمنون أخوة، ولا يَحلُّ لامرىءٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسه، فلا تَرجِعُوا بعدي كُفاراً يضرب بعضُكم أعناقَ بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي. أيها الناس، إن ربكم واحد، وأباكم واحد كلكم لآدم وآدمُ من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى".
وفي نص آخر أنه قال (ص) أيضاً وهو يُودِّعُ المسلمين في تلك الخطبة: لا يتمنى مُتَمنٍّ ولا يدَّعي مُدّعٍ، إنه ليس بين الله وبين أحد شيءٌ يُعطيه به خيراً أو يدفعُ به عنه شراً إلا العمل، ألا إنه لا يُنجي إلا عملٌ مع رحمة ولو عَصيتُ لَهَويتْ". إن علينا أن نأخذ هذه الكلمات النبوية الشريفة دستوراً لنا لنعتبر أن القيمة كلَ القيمة في حياتنا وفي علاقاتنا مع بعضنا البعض ، والقيمةَ كلَ القيمةِ في علاقتنا بربنا، هي العملُ والتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فالعملُ هو القيمة لا النسبُ ولا حجمُ العائلة ولا الجاهُ ولا المنصبُ ولا الموقع.
ويقول تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} التوبة/105. ويقول سبحانه في موضع آخر: {من يعملْ سوءاً يُجزَ به ولا يجدْ له من دون الله ولياً ولا نصيرا} النساء/123.
الشيخ علي دعموش