الصفحة الرئيسية
كيف بأمة تهجر تشييع نبيها (ص) ..؟!!(71)
- 06 تشرين2/نوفمبر 2013
- الزيارات: 3927
وفاةُ النبي (ص) - (71)
إشتد المرض بالنبي (ص) في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة في الوقت الذي كان يَحثُّ الناس على الالتحاق بجيش أسامةَ بنِ زيد الذي أمره أن يخرج لمواجهة الدولة الرومانية.
وقد مكث النبيُ (ص) ثلاثةَ أيام موعوكاً، ثم خرج إلى المسجد معصوبَ الرأس معتمداً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وعلى الفضل بنِ العباس، حتى صعد المنبر فجلس عليه ثم قال: معاشر الناس، قد حان مني خُفُوفٌ من بين أظهركم – أي يبدو أن أجلي قد اقترب وأني مغادرُكم – فمن كان له عندي عِدَةٌ فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليَّ دينٌ فليخبرنِي به، معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شيءٌ يعطيه به خيراً أو يصرفُ عنه شراً إلا العمل". وفي رواية أخرى أنه قال (ص): ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يقل رجلٌ إني أخاف الشحناءَ من رسول الله ألاَ وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألاَ وإن أحبكم إليَّ من أخذ مني حقاً إن كان له".
ومن هذه الرواية نفهمُ عظمةَ الرسول (ص) في هذا التواضع النبوي الذي يقف فيه أمام الناس كلِهِمْ ليطلب منهم أن يطالبوه بما لهم عليه من حق لو كان لهم حق، حتى يُعلِّمَ المسلمين من بعده سواءٌ كانوا قادةً أو أشخاصاً عاديين أن لا يتهاونوا في حقوق الآخرين، فإن على القادة أن لا يتكبروا على الناس من خلال موقعهم بحيث يمتنعون عن دعوة الناس ليطالبوهم بحقوقهم، وعلى الرعية أن يتحركوا ليطالبوا قيادتَهم بما لهم عليهم من حقوق، وأن لا يكون الموقع مانعاً لصاحب الحق من أن يطالب بحقه، وأن لا يكون الموقعُ مانعاً لمن عليه الحقُّ أن يعطي للناس ما لهم عليه من حق.
وهناك لفتاتُ أخرى في هذا الدرس:
منها: إن على الإنسان أن يعمل على أن لا يخرجَ من الدنيا إلا وهو مُحللٌ من حقوق الناس، وإن عليه أن يؤدّيَ للناس حقوقهمُ التي عليه في حياته قبل أن يأتيَه الموت، وهذا ما عبَّر عنه أميرُ المؤمنين علي (ع) في حديث له يقول فيه: (كن وصيَّ نفسِك فاعمل في مالك ما تُؤثِرُ أن يُعملَ فيه من بعدك).
ومنها: أن لا يتعقد الإنسانُ الكبيرُ الذي يملك موقعاً اجتماعياً مميزاً، ولا يحمل العداوة والبغضاءَ والشحناءَ للإنسان الذي ينبهه إلى خطأ أو يطالبُهُ بحقه فالرسول بعظمته يقول: (ولا يقولن أحد إني أخاف العداوة والشحناء من رسول الله فإنهما ليستا من طبيعتي ولا من خُلُقي).
وبعد أن ألقى النبي (ص) هذا الخطابَ القصير نَزلَ ثم صلى بالناس ودخل بيته. وجاءه بلالُ والمرضُ قد اشتد به عند طلوع الفجر فنادى للصلاة، فقام (ص) وهو لا يستطيع المشيَ وحده على الأرض من الضعف، فأخذ بيده عليٌ (ع) والفضلُ ابنُ العباس فاعتمد عليهما، ورجلاه تخطان الأرضَ من الضعف، فلما دخل المسجد وقف في محراب الصلاة وأدى (ص) صلاةَ الفجر.
فلما انتهى انصرف إلى منزله واستدعى عدداً من أصحابه ممن حضر المسجد ثم قال لهم: ألم آمر أن تُنفِذُوا جيشَ أسامة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فَلِمَ تأخرتم عن أمري؟ فقال أبو بكر: إنني كنتُ خرجتُ ثم عُدتُ لأُجدد بك عهداً. وقال عمر: يا رسول الله، لم أخرج لأنني لا أحبُ أن أسأل عنك الركب (أي أسأل عن حالك المسافرين). فقال (ص): أَنفِذُوا جيش أسامة، أَنفِذُوا جيش أسامة وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم أُغمي عليه من التعب ومما لحقه من الأذى لتجاهلهم أوامره.
يردّون طلب النبي (ص) بأنه "يهجر":
ومكث النبي(ص) فترةً من الزمن مُغمى عليه فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وابنتهِ فاطمة (ع) ونساءِ المؤمنين وجميعِ من حضر من المسلمين. ولما أفاق نظر إليهم وقال: ائتوني بدَوَاة وكتفٍ لأكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً، ثم أغمي عليه، فقام بعض من حضر يلتمسُ دَوَاةً وكتفاً فقال له عمر: ارجع، فإنه يهجر!! فَرَجَع، فلما أفاق (ص) قال بعضُهم: ألا نأتيك بكتف يا رسول الله ودَوَاةْ؟ فقال (ص) : أَبَعْدَ الذي قلتم: لا، ولكنني أوصيكم بأهل بيتي خيراً، وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا من مكانهم وخرجوا.
وفي رواية عن ابن عباس رواها البخاري في صحيحه أيضاً قال: لما حضرت رسولَ الله الوفاةُ وفي البيت رجالٌ فيهم عمرُ بنُ الخطاب قال رسول الله (ص): هَلُّمَ أكتُبُ لكم كتاباً لن تَضِلوا بعده، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع! وعندكم القرآنُ حسبُنا كتابُ الله، فاختلف أهلُ البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتُبْ لكم رسولُ الله، ومنهم من يقولُ ما قال عمر، فلما كثر اللغطُ والاختلاف وغموا رسولَ الله قال (ص): قوموا عني. وكان هذا تعبيراً عن انزعاج النبي(ص) منهم.
وواضح أن الكتاب الذي أراد رسولُ الله (ص) أن يكتبه للمسلمين قبل وفاته لا يعدو أن يكون تأكيداً وتثبيتاً لما صرَّح ولوّح به (ص) مراراً وتكراراً من قبل بخصوص ولاية علي (ع) واستخلافه من بعده.
أما لماذا رفض النبيُ (ص) أن يكتب ذلك الكتاب؟ فلأنه (ص) كان يعلمُ أنه لا قيمة لكتابه عند هؤلاء بعد الذي قالوا بحقه، بل لو كتب عشرين كتاباً فسوف يُحوِّرون ويُؤوِّلون مضامينَهَا بما ينسجمُ مع مصالحهم وأهوائهم، وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك، هذا هو السببُ الذي دعا النبي (ص) إلى عدم الكتابة حينما أفاق من إغمائه.
التشاجر حول الخلافة تنسيهم تشييع نبيهم (ص) :
وعلى كل حال، فقد اشتدت وطأةُ المرض على رسول الله (ص) في اليوم التالي ومُنعَ الناسُ من الدخول عليه، وكان علي (ع) لا يفارقه إلا لضرورة، فلما حضرت ساعةُ الموت قال النبي لعلي: ضعْ يا علي رأسي في حجرك فقد جاء أمرُ الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناوَلْهَا بيدك وامسحْ به وجهك، ثم وجِّهني إلى القبلة وتولَّ أمري وصلِّ عليَّ أولَ الناس، ولا تفارقْني حتى تُوارِيَنِي في رَمْسِي واستعنْ بالله تعالى. فأخذ علي (ع) رأسه الشريف ووضعه في حجره، ففاضت نفسُهُ الشريفةُ وهو إلى صدر علي (ع).
وكانت وفاتُهُ(ص) يومَ الاثنين في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشرة للهجرة، وله من العمر ثلاثٌ وستون سنة، وقد قام علي (ع) بجميع ما أوصاه به رسولُ الله (ص)، ولم يحضر دفنَ النبي (ص) أكثرُ الناس لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة وانشغالهم بها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الشيخ علي دعموش