الصفحة الرئيسية
كيف اعتمد النبي (ص) الحرب النفسية وعنصر المفاجأة في فتح مكة؟!(48)
- 13 تشرين1/أكتوير 2013
- الزيارات: 4477
فتح مكة (48)
بعد مرور حوالي السنتين على صلح الحديبية أقدمت قريشٌ على نقضه وذلك عندما انضمت إلى حلفائها من قبيلة كِنَانَة التي أقدمت على مهاجمة قبيلة خزاعة حليفةِ المسلمين مخالفةً بذلك الهُدنةَ القائمةَ بين الطرفين , فاستنصرت قبيلةُ خزاعة رسولَ الله.
وشعرت قريش بخطورة المجازفة التي أقدمت عليها, فأوفدت أبا سفيانَ إلى المدينة المنورة ليشرح الموقفَ للنبي (ص) وليؤكدَ التزام قريش بصلح الحديبية وليتفادى نتائجَ الأحداث, إلا أن محاولاتِه في المدينة لم تجدِ نفعاً بعدما رفض النبيُ (ص) مقابلته احتجاجاً على نقضه للعهد.
وبعد أن اتضح للنبي (ص) أن قريشاً نقضت العهد والصلح, قرر التوجه إلى مكة لمواجهة قريش, فاستنهض أصحابه وجهز جيشاً من عشرة آلافِ مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرِهم من القبائل المسلمة, وقرر أن يتحرك سراً باتجاه مكة ليفاجئ قريشاً, وليصادر إمكانيةَ الدفاعِ من يدها, ولئلا يقعَ قتالٌ في مكة فدعا ربه قائلاً: اللهم خذ العيون( أي الجواسيسَ) والأخبارَ عن قريش حتى نَبْغَتَهَا في بلادها.
جاسوس بين المسلمين :
إكتشف حاطبُ بنُ بُلْتُعَة وكان من المسلمين, أن هدف النبي (ص) هو مكة فكتب إلى قريش بذلك وأعطى الكتاب إلى امرأة وأمرها بالتوجه الى مكة وتسليمه الى المشركين, فوضعت المرأةُ الكتابَ في شعرها لإخفائه, وتوجهت إلى مكة فعَرَفَ النبي (ص) بهذا العمل الجاسوسي الخطير, فأرسل علياً (ع) ليقبِضَ عليها فأدركها في منطقةِ ذيِ الحليفة على الطريق إلى مكة, فانتزع منها الكتابَ بالقوة وأرجعها إلى المدينة. ويقول المؤرخون: إن الله أنزل بهذه المناسبة قولَه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياءَ تُلْقُوْنَ إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) الممتحنة 1.
فإن العمل الجاسوسي الذي قام به حاطبُ بنُ بُلتُعَة أظهر فيه مودتَه ومحبتَه وتعاطفَه مع أعداء الإسلام فجاءت هذه الآيةُ وما بعدها لتحذر المسلمين من العمالة لأعداء الإسلام, ومن تكرار مثلِ هذه التصرفات مستقبلاً مؤكدةً أن أعداء الله وحدَهم هم الذين يضمرون العِدَاء والسوءَ للمؤمنين والحقدَ عليهم وإذا كانوا كذلك فكيف تمدون يد المساعدةِ والعون والوِّدِ لهم؟! إنهم يخالفونكم في العقيدة, وهم الذين أعلنوا عليكم الحرب ومارسوا في حقكم كلَ أساليبِ الإرهاب والوحشيةِ فأخرجوكم من دياركم, ودمروا بيوتكم, وشردوكم من بلادكم وقتلوا رجالَكم وأطفالَكم فهل بعد كل هذه الأعمال التي قاموا بها هل من المناسب إظهارُ المودةِ لهم وخيانةُ المسلمين بالتجسس لمصلحتهم؟. وهذه الآيةُ موجهةٌ لكل المسلمين الذين يمكن أن يُغريَهُمُ العدوُ فيوظفَهُم لحسابه ولحساب مصالحه فيدفعَهُم إلى العمالة والجاسوسية من أجل تحقيق أهدافه الدنيئة.
جيش المسلمين يتحرك باتجاه مكة :
وعلى كل حال فقد تحرك جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة للهجرة سراً حتى وصل إلى مشارف مكة. وقد استخدم النبي (ص) الحربَ النفسية في هذه الغزوة فأشعل النيرانَ على الجبال على مقربة من مكة, ليُشْعِرَ المشركين بقوة الجيش الإسلامي وكثرتِه العددية ومن ثم ليُثيرَ الرعبَ واليأسَ في قلوب الطغاة ويدفعَهم للخضوع والاستسلامِ من غير قتال.
في هذه الأثناء خرج أبو سفيان وحكيمُ بنُ حُزام وبديلُ بنُ ورقاء وهم من قريش ليتجسسوا الأخبارَ ففوجئوا بالنيران تُطوِّقَ مكة, فالتقى بهمُ العباسُ بنُ عبد المطلب في الطريق خارجَ مكة, فأشار على أبي سفيان (أن يذهب به إلى رسول الله (ص), وبعد أن أخذ له الأمان رتبَ له لقاءً مع النبي (ص) وحصل اللقاءُ صبيحةِ اليوم التالي, فقال له النبي (ص): ويحك يا أبا سفيان, ألم يَأْنِ لك أن تعلمَ أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَكَ وأوصلك, والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إلهٌ غيرُهُ لقد أغنىَ عني شيئاً بَعْدْ. فقال (ص): ويحك يا أبا سفيان ألم يَأنِ لك أن تعلم أني رسولُ الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمَك وأوصلك, أمَّا هذه والله فإن في النفسِ منها حتى الآنَ شيئاَ.
أبو سفيان آمن نفاقاً :
وهنا تدخل العباسُ بنُ عبد المطلب لإنقاذ أبي سفيان فخاطبه قائلاً: ويحك أسلمْ وأشهدْ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله, فشهدَ بذلك أخيراً, وفي نفسهِ من نبوة محمد (ص) أشياءُ وأشياء وظلتْ تلك الأشياءُ إلى أن مات. وقد حاول العباس أن يتعامل مع التركيب النفسي لشخصية أبي سفيان ويوجه موقعَه الإجتماعيَ والسياسيَ لمصلحة الفتح المبين فقال لرسول الله: يا رسول الله, إنه يحبُ الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فأمر النبي (ص) من ينادي في الناس: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن, ومن ألقى سلاحه فهو آمن, ومن دخل داره وأغلق عليه بابَه فهو آمن.
وبعد أن أعطاه النبيُ (ص) هذه الميزةَ إرضاءً لخَصْلَةِ الفخر في نفسه, أخذه العباسُ إلى المكان الذي عينه له رسولُ الله (ص) ليرىَ جنودَ الله وهم يمرون أمامه في استعراض عسكري لإظهار القوةِ بشكل لم تعهد له مكةُ نظيراً من قبل.
وهكذا دخل رسولُ الله مكةَ بتلك الحشود فاتحاً من غير قتال ولا مقاومةٍ من أهل مكة, فلما انتهى إلى الكعبة المشرفة تقدم على راحلته فقبَّلَ الركنَ وكبر, فكبر المسلمون لتكبيره, ثم طاف حول الكعبة وكان حولها ثلاثُمِئةٍ وستون صنماً, وكان هُبَلُ أعظمَ هذه الأصنام, فقال النبي (ص) لعلي (ع): أعطني يا علي كفاً من الحصى, فقبض له أميرُ المؤمنين (ع) كفاً فناوله فرمى به الأصنام وهو يقول: (قل جاء الحقُ وزَهَقَ الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً), فما بقي منها صنمٌ إلا خرَّ على وجهه وانكسرْ, ثم أشرف النبيُ (ص) على الناس من باب الكعبة بعدما صلى فيها وقال: الحمد لله الذي صدق وعده ونصرَ عبده, وهزمَ الأحزاب وحده, ثم توجه إلى أهل مكة وسألهم: ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً, أخ كريم وابنُ أخ كريم, فقال (ص): إني أقول لكم ما قال أخي يوسُفُ لإخوته, لا تثريبَ عليكم اليوم, يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين, إذهبوا فأنتم الطلقاء.
بهذه النفس الرحيمة تعامل النبيُ(ص) مع أشدِّ الناسِ عداوةً له بعد ان تمكَّنَ منهم وسيطرَ عليهم . وبذلك ضرب الرسولُ (ص) للأجيال في كل عصر وزمان مثلاً في الرحمة والعفو والتسامحِ والترفعِ عن الحقد والانتقام.
ولعل أهمَّ السماتِ التي برزت في فتح مكة, هي السماتُ والملامحُ التالية:
أولاً: الإعدادُ الجيدُ للمعركة, فقد بلغ عددُ جيش المسلمين عشرةَ آلافِ مقاتل, مجهزين بأحسن تجهيز وهم على مستوى من التنظيم والانضباط.
ثانياً: المحافظةُ على السرية التامة وعدمِ الإعلان عن المقصد والهدف, فقد أمر النبيُ (ص) أصحابه بالاستعداد للحرب ولكنه لم يعلن عن وجهته وهدفه حتى للمقربين إليه, كي يستطيعَ تحقيقَ عنصر المفاجأة للعدو الذي هو عنصرٌ أساسيٌ في المعركة والحربِ الجهاد. كما أنه (ص) اتخذَ عدةَ إجراءات امنية في المدينة المنورة قبل ان يتحرك بجيشه كالمنع من مغادرة أحدٍ المدينة لمنع تسربِ المعلومات والاخبارِ إلى العدو, وقد تمكَّنَ جيشُ المسلمين نتيجةَ التشددِ في الكتمان وحفظِ الأسرار والاجراءات من مباغتة المشركين والظهورِ فجأةً على مقربة من مكة بقوات كبيرة لا طاقةَ لقريش وحلفائِها على مواجهتها ومقاومتِها.
ثالثاً: استخدم النبيُ(ص) الحربَ النفسية, لإثارة الرعب في قلوب الأعداء وذلك عن طريق نشر الجيش على بقعة كبيرة من الأرض على مشارف مكة حيث أشعل المسلمون نيرانَهم ليرى العدو كثرتَهم.
رابعاً وأخيراً: الحكمةُ التي أبداها النبي (ص) بعد النصر في التعاطي مع اهل مكة وتواضُعُهُ الكبير أمام هذا الانجازِ الإلهيِ التاريخيِ الكبير, فلم يبدرْ من النبي (ص) بعد دخوله مكة وتحقيقِهِ الانتصارَ أيُّ تصرف يمكنُ أن يثيرَ المنهزمين, فهو فاتحٌ حكيمٌ رحيمٌ متسامحٌ وهو يعودُ إلى بلده وأهله لا يحمل غلاً ولا حقداً, ولا يجد في انتصاره وسيلةً للتكبر أو التجبر, ويعبِّرُ عن سروره بالفتح والانتصار بتواضع كبير .
واستطاع في موقفٍ إنساني وحضاري نبيل أن يستميلَ أهلَ مكةَ ويستقطبَهُم إلى الإسلام وهم الذين وقفوا ينتظرون حسابهم فإذا به يعفو عنهم ويقول لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء.
وقد تربى المجاهدون في المقاومة الإسلامية في لبنان على هذه المواقفِ النبوية الأصيلة والنبيلة, ولذلك رأيناهم كيف أنهم تصرفوا بمنتهى الحكمة والتواضع بعد أن حققوا انتصاراتهم التاريخية على العدو الصهيوني في لبنان في كل المراحل, فأسقطوا بذلك كلَ الرهاناتِ الخاطئة, وقدموا للعالم أجمع أُنمُوذجاً حضارياً في التعامل والتعاطي مع الانجازات والانتصارات الكبيرة.