النجاح في الاختبار مرهون بالصبر(53)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة/ 155.

هذه الآيات تطرح مسألة الاختبار والامتحان الإلهي الكبير لعباده، وتبين بعض طرق ووسائل هذا الاختبار ثم تشير إلى أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى النجاح في هذا الاختبار وهو الصبر.

القرآن يؤكد في هذه الآيات وفي غيرها من الآيات على أن الله يبتلي عباده. فالله تعالى يقول في الآية الأولى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...) ويقول في موضع آخر (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)  محمد/ 37.

والمقصود بالابتلاء هو الاختبار والامتحان، فالله يختبر عباده ويمتحنهم بأشياء كثيرة, قد يختبرهم بالمصائب والآلام والمشاكل الصعبة القاسية, وقد يمتحن عباده بالخير وبالنعمة وسعة الرزق بأن ينعم عليهم ويوسع في رزقهم ويغنيهم، فهو قد يختبرهم بالشر وبالأشياء السلبية, وقد يختبرهم بالخير وبالأشياء الإيجابية، قد يمتحنهم بالضعف بأن يجعلهم ضعفاء متهورين، وقد يمتحنهم بالقوة بأن يجعلهم أقوياء، قد يمتحنهم بالسلطة والموقع والمنصب فيجلعهم حكاماً وملوكاً وأصحاب مسؤوليات مميزة ومتقدمة في المجتمع, وقد يمتحنهم بإبعادهم عن السلطة بحيث يكونون على الهامش.

يقول الله تعالى في بعض آياته: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) الأنبياء/ 35.

ويقول سبحانه على لسان نبيه سليمان الذي أعطاه الله الملك: (هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر) النمل/ 40.

إذن: فكما أن الله يبتلي الإنسان الفرد والمجتمع ويمتحنه بالأشياء السلبية, بالخوف بالجوع بالفقر بفقد الأحبة مثلاً، فهو يمتحنه أيضاً بالاشياء الإيجابية وبالخير, بالنعمة بالسلطة بالغنى مثلاً.

الآية التي نحن بصدد تفسيرها: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)، تبين بأن الله يختبر عباده بالأشياء السلبية, بالمصائب والآلام والمشاكل والتحديات, يمتحنهم بالخوف من العدو او بشيء من الجوع, بالأضرار المادية, بالموت, بفقد الأولاد أو الاخوة أو الاقارب مثلاً، يختبرهم بنقص المواد الغذائية والموارد الطبيعية والثمرات.

وهذه الابتلاءات ابتلاءات الخوف والجوع والخسارات المالية وفقد الأنفس ونقص الثمرات وغيرها من الابتلاءات, قد تقع على الأفراد فيصاب الإنسان كفرد بالخوف أو بالمرض أو بالجوع والحاجة والفقر او بالمصائب المتنوعة، كأن يموت ابنه، أو يجرح أخوه، او يهدم منزله، او يخرج من عمله ووظيفته, او يتلف زرعه، او ما اشبه ذلك من المشاكل, وقد تقع هذه الابتلاءات أو جزءاً منها على المجتمع ككل, ابتلاء المجتمع لا يصيب هذا الفرد او ذاك, هذا الشخص أو ذاك، ابتلاء المجتمع يصيب الهيئة الاجتماعية كلَّها بمصيبة معينة, الله قد يبتلي المجتمع كله بمصيبة الظلم الاجتماعي، او بمعصية فساد النظام الاجتماعي الذي يسبب الجوع للناس كل الناس، او بمصيبة سيطرة الاشرار على الناس وعلى الجماعات وعلى البلاد بكاملها، أو سيطرة الاعداء بالاحتلال أو الغزو فيبتلي المجتمع كله بالخوف من العدو وبالاضرار المادية والمالية والمجازر والموت الجماعي، أو بإتلاف المزروعات والممتلكات، هذه بلاءات المجتمع.

إذن فالامتحان والاختبار بالمصائب والمشاكل المذكورة في الآية كما أنها تصيب الفرد كفرد قد تصيب المجتمع كله او مؤسساته، فيمتحن الله بتلك الوسائل والطرق الإنسان الفرد والإنسان المجتمع.

وهنا قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن السؤال عن سبب هذا الاختبار الإلهي لماذا يختبرنا الله لماذا يمتحننا الله؟ ما هو سر هذه الابتلاءات التي يصيبنا الله بها كافراد وكمجتمعات؟؟ فنحن مثلاً نختبر الافراد لنطلع على بعض الخصوصيات التي لا نعرفها عنهم, فنختبر مثلاً بعض الاشخاص علمياً لنعرف مستواهم العلمي لاننا اساساً نجهل مقدراتهم العلمية، في هذا العمل او ذاك، أو نختبره في مجال عمل من الاعمال المالية لنعرف هل انه أمين أو لا؟ أو هل يملك الخبرة الكافية او لا يملك أهلية ذلك العمل؟!.

فهل ان الله سبحانه بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده وهو العالم بكل الخفايا والاسرار والمطلع على جميع الخصوصيات؟ وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له عن طريق الاختبار والامتحان؟

والجواب: إن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري، اختباراتنا نحن التي نجريها لبعض الأفراد هي كما ذكرت الهدف منها رفع الابهام والجهل, أي لأجل اننا نجهل بعض خصوصيات الاشخاص من الناحية العلمية أو المهنية أو الاخلاقية نمتحنهم لنطلع ونعرف ونرفع الجهل الذي عندنا، أما الاختبار الإلهي فالهدف منه هو التربية، تربية الافراد والمجتمعات على مواجهة الابتلاءات والمصائب والآلام والمشكلات الصعبة التي تعترضهم في حياتهم، من أجل أن يصبحوا أكثر قدرة وقوة على مواجهة الصعاب والتحديات.

ولذلك فإن الله تعالى يقول في الآية: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والثمرات) فهو يختبرنا بشيء من الخوف اي ببعض من الخوف وبشيء من الفقر والجوع وبشيء من الخسارات المالية والمادية ولا يختبرنا بكل الخوف وبكل الفقر والجوع, بيتلينا ببعض من ذلك حتى نتدرب ونتربى على مواجهة ما هو اصعب واكبر من ذلك، تماماً كما أن المعلم يدرب الشباب والاطفال على الاعمال الرياضية لتقوى أجسامهم ولتشتد سواعدهم، وكما انه يُؤخد الجنود إلى مراكز للتدريب وإلى مناورات وحرب مصطنعة يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة ويتعرضون للاخطار ليتدربوا على روح المغامرة والشجاعة, من اجل مواجهة التحديات الكبيرة التي قد يفرضها العدو من أجل تربيتهم على أداء قتالي جيد يكون بمستوى التحدي.

كذلك الله يعرض الناس كل الناس وخصوصاً المؤمنين يعرضهم لأنواع من البلاء, يعرضهم لشيء من المرض لشيء من الخوف والجوع والحاجة، يعرضهم لبعض الاحزان لبعض الخسارات المالية ليشتد ساعدهم وليتعلموا الصبر أمام المحن الكبرى التي قد تواجههم من قبل أعداء الله وهم يسيرون في خط الله وفي خط رسالته، والمؤمنون هم أشد الناس بلاءاً, لان الذين يحملون القضية الإلهية والمشروع الإلهي في العالم هم المؤمنون، ولذلك فهم يحتاجون إلى تدريب اكبر ليجعل عودهم أصلب وإرادتهم أقوى، وليجعلهم اقدر على تحمل المسؤوليات والمهمات ومواجهة التحديات.

وقد يختبرنا الله من اجل شيء آخر أيضاً من أجل أن تظهر اعمالنا, ومن اجل أن تنفجر القابليات التي في داخلنا, الله يمتحن عباده بالخسائر والمصائب والمحن من اجل أن يتضح ما يضمرونه من اعمالهم ليرى كيف يواجهون من الناحية العملية تلك الابتلاءات, هل يواجهونها بالصبر ام بالجزع؟ هل يواجهونها بالتسليم بقضاء الله والرضا بما قسمه الله ام يواجهون ذلك بالاحتجاج والتمرد؟ هل انهم يتماسكون ويصدون التحديات ومؤامرات الاعداء ويثبتون على خط الإيمان والجهاد أم انهم يسقطون وينهارون ويتخاذلون وينحرفون عن خط الله ويتخلون عن جهاد اعداء الله؟

الله تعالى يقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين).

ويقول في موضع آخر: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملاً). فالله تعالى يبتلي عباده في بعض الحالات حتى تظهر اعمالهم ومواقفهم، فيحاسبهم على اساس تلك الاعمال وتلك المواقف، ولذلك فإن امير المؤمنين (ع) يقول في بيان سبب الاختبارات الإلهية (وإن كان سبحانه اعلم بهم من انفسهم ولكن لتظهر الافعال التي بها يُستحقُ الثواب والعقاب).

فالله يمتحن عباده حتى تظهر وتتجلى أعمالهم فيثيب من يستحق الثواب منهم ويعاقب من يستحق العقاب منهم.

ونحن نعلم أن الناس أمام الاختبارات الإلهية على نوعين:

نوع فائز وناجح في الامتحان، ونوع خاسر.

نوع يسقط أمام هول المصائب وأمام تحديات الأعداء ويتراجع ويتخلى عن مسؤولياته ويلجأ إلى المداهنة أو التماس الأعذار, وهؤلاء هم الضعفاء.

ونوع آخر يصبر ويتماسك ويقف كالطود الأشم أمام كل المخاوف والتحديات, ولا يتزلزل لا يتراجع لا يسقط وإنما يزداد توكلاً على الله وإيماناً بالله ويقاوم ويصبر بعزم وقوة وثبات, وهؤلاء هم الذين يقول عنهم القرآن: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

وهؤلاء هم الصابرون الذين يبشرهم الله في الآية: (وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون).

فالآيات هذه تبشر بالنجاح والفلاح والرحمة والهداية أولئك الصابرين المقاومين, وتؤكد أن الصبر رمز الانتصار, بل هو أهم عامل من عوامل الانتصار والنجاح في الدنيا والآخرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين