الحلقة 48

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).

يذكر القرآن الكريم عدة خصائص وصفات للأمة الإسلامية تجعلها في طليعة ومقدمة الأمم والشعوب، وتؤهلها لممارسة دور قيادي في الحياة.

من هذه الخصائص والصفات التي يذكرها القرآن للامة الإسلامية ما تذكره هذه الآية التي تصف هذه الأمة بصفتين: بأنها الأمة الوسط (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً )وثانياً: بأنها الأمة الشاهدة على الناس (لتكونوا شهداء على الناس) فكيف نفهم هذه الوسطية؟ وكيف نفهم هذه الشهادة؟

وبتعبير آخر ما معنى كون الأمة الإسلامية أمة وسطا؟ وما معنى شهادتها على الناس؟ وشهادة الرسول عليها؟

ولكي تتوضح لنا الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها لا بد من أن نتحدث بصورة اساسية حول ثلاثة أمور:

أولاً: معنى ومفهوم الأمة الوسط. وثانياً: عن معنى ومفهوم الامة الشاهدة. وثالثاً: عن معنى ومفهوم شهادة الرسول على الامة.

وسنقتصر الحديث في هذه الحلقة حول الامر الاول, أي عن معنى ومفهوم الامة الوسط, على أن نتحدث عن الأمرين الآخرين وغيرهما في الحلقة القادمة إن شاء الله.

حول الأمر الأول: فإن الآية تقرر كما هو واضح أن الله جعل هذه الأمة أمة وسطا. والوسط بمعنى الاعتدال والتوازن وعدم التطرف.

فعندما يقال إن الامة الإسلامية هي الأمة الوسط, يعني ذلك أنها الأمة المعتدلة والمتوازنة في عقيدتها وفي فكرها ومفاهيمها وفي قيمها وفي علاقاتها.

هي معتدلة في كل ذلك غير متطرفة, وهي بعيدة عن الإفراط والتفريط في جميع هذه الجوانب، لأن الإسلام الذي هو دين المسلمين يقوم في جميع أبعاده العقيدية والفكرية والتشريعية وغيرها يقوم على أساس التوازن والاعتدال وعدم التطرف.

الامة الإسلامية معتدلة في عقيدتها, لأنها لا تسلك طريق الشرك كما يفعل المشركون, ولا تسلك طريق الإلحاد كما يفعل المنكرون لوجود الله، بل تؤمن بعقيدة التوحيد التي تمثل الطريق الوسط بين جانب الأفراط المتمثل بتعدد الآلهة وبين جانب التفريط المتمثل بالإلحاد.

وهي معتدلة في فكرها ومفاهيمها, فلا تنحو منحى الجبر مثلاً كما يفعل الجبريون الذين يقولون إن الله يجبر العباد على أفعالهم وسلوكهم, ولا تنحو منحى التفويض كما يفعل المفوضة الذين يقولون إن الله خلق الناس ثم تركهم وفوض إليهم أمورهم ولم يعد يتدخل في شؤونهم، وإنما هي تقول بالطريق الوسط المعتدل الذي هو الامر بين الأمرين, فلا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين, بمعنى أن الإنسان هو الذي يختار طريقه وأعماله وسلوكه ولكن الله لم يتركه بل هو الذي يمنحه القوة والقدرة على اختياره وأعماله وأفعاله، فلا هو يجبره على العمل بحيث يسلب عنه الاختيار ولا هو يفوض إليه الأمر بالمطلق ويتركه.

والامة الإسلامية معتدلة ومتوازنة في قيمها المادية والمعنوية, فهي تسلك الطريق الوسط بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثله الرهبان والمتصوفون الذين لا يدعون إلا إلى الرهبانية والتصوف ويرفضون حاجات الجسد ويبتعدون عن الماديات, وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثله المشركون واليهود الذين يستغرقون في عالم المادة ولا يريدون إلا الحياة الدنيا والاستمتاع بزخارفها وزينتها, ولا يؤمنون بالقيامة والحساب ولا يبالون بشيء من الفضائل المعنوية والروحية.

أما الأمة الإسلامية فإن الله جعلها أمة وسطا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء, فهي تجمع بين الروح والجسد, لأن الإنسان مركب من روح وجسد فهي تأخذ شيئاً للروح فتتمسك بالفضائل المعنوية والروحية، وتأخذ شيئاً للجسد فتهتم بحاجاته وتستفيد من الدنيا وطيباتها لتلبية حاجة الجسد، وبذلك تجعل الأمة حياتها حياة متوازنة بين الماديات والمعنويات بعيداً عن التطرف إلى هذا الجانب أو ذاك الجانب.

والأمة معتدلة ومتوازنة أيضاً بين الدنيا والآخرة, فهي تستمتع بخيرات الدنيا وطيباتها فيما أحله الله منها, وتعمل في الوقت نفسه للآخرة على قاعدة (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) وعلى قاعدة (اعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).

فهي لا تستغرق في الدنيا وملذاتها وزخارفها وزينتها بحيث تنسى الآخرة، ولا تستغرق في العمل للآخرة بحيث تنسى نصيبها وحاجتها من الدنيا, بل تأخذ حاجتها من الدنيا وتعمل في الوقت ذاته للآخرة، لأنه ليس من الإسلام أن يتخلى الإنسان عن العبادة والعمل للآخرة، ويتوجه نحو الدنيا ليستغرق فيها وليكون اسيراً وعبداً لشهواتها وملذاتها، كما ليس من الإسلام أن يتخلى الإنسان عن الدنيا وعن عياله وماله وتجارته، وينصرف إلى العبادة فقط لأن ذلك من الرهانية التي يرفضها الإسلام.

فقد روي أنه قيل للنبي (ص): إن بعضاً من أصحابك قد غرقوا في العبادة, فغضب النبي (ص) وجاء إلى المسجد وخطب في الناس وقال : إنه سمع أن فيهم من يوصل الليل بالنهار في العبادة مع أنه هو نبيهم ورسول الله إليهم ولا يفعل ذلك بل يستريح بعض الليل وينام وينظر في حاجاته الجسدية وفي حاجات عياله، ويتزوج ويخرج إلى السوق ويمارس حياته بصورة اعتيادية. ثم ذكر في تلك الخطبة: أن أولئك الذين ينصرفون للعبادة ويتخلون عن حاجاتهم الجسدية، خارجون عن سنته.

إذن فالإسلام يقوم على  أساس التوازن بين الدنيا والآخرة, ويطلب من المسلمين أن يعملوا للدنيا والآخرة, وأن يجمعوا بين الماديات والمعنويات بعيداً عن التطرف، والإفراط والتفريط.

والأمة الإسلامية معتدلة أيضاً في علاقاتها الاجتماعية, فهي لا تضرب حولها حصاراً يعزلها عن العالم، ولا تذوب في التبعية لهذه الكتلة أو تلك كما هو الحال في الأمم التابعة والمسحوقة أمام الغرب, وإنما تنفتح على العالم بطريقة لا تفقد سيادتها واستقلالها.

وهي معتدلة في سلوكها الأخلاقي وفي عبادتها وفي شخصيتها وفي جميع جوانب حياتها.

والأمة الإسلامية الحقيقية لا تأخذ بقيمة إنسانية وتهمل سائر القيم , بل هي تأخذ بجميع القيم الإنسانية بصورة متوازنة, وتنمو فيها جميع القيم الإنسانية والمثل العليا من الإيمان والعبادة والخير والجهاد والشجاعة والزهد بصورة متوازنة ومتعادلة، فالأمة الإسلامية الحقيقية هي أمة ذات أبعاد مختلفة, هي مفكرة ومؤمنة وعابدة وزاهدة وعادلة ومجاهدة وشجاعة وخيرة وواعية ومتسامحة وفعالة, وكل هذه القيم تنمو في شخصيتها بصورة متعادلة ومتوازنة ومنسجمة, ولذلك فهي الأمة الوسط, وهي الأمة النموذجية التي يجب أن تكون معياراً ومقياساً(نموذجاً) لجميع الأمم لأنها تحمل قيم الإسلام ومقاهيم الإسلام وتسير في الطريق الوسط بعيداً عن التطرف والإفراط والتفريط.    

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين