الحلقة 41

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يسألونك ماذ ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلون من خير فإن الله به عليم) البقرة/215.

يتعرض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى مسألة الإنفاق والبذل في سبيل الله، والله عز وجل حثَّ المسلمين بطرقٍ عديدة على الإنفاق وعلى الأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر من حيث نوع الإنفاق، ومن حيث المستحقين للنفقة. فقد ورد في نزول هذه الآية أن رجلاً يقال له عمرو بن الجموح وكان رجلاً كبير السن وصاحب ثروةٍ ومالٍ كثير، هذا الرجل جاء إلى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله، بماذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية: (يسالونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليم).

فإن الواضح من هذا النص أن السائل سأل عن نوع النفقة وعن نوع الأشياء التي ينفقها بماذا أتصدق بمالٍ أو طعام أو ثياب أو فاكهة, ماذا أنفق؟

كما أن السائل سأل عن نوع الأشخاص الذين يستحقون النفقة, على من أتصدق؟

تقول الآية: (يسالونك ماذا ينفقون؟) فالسؤال كما تبين من سبب النزول اتجه لمعرفة نوع النفقة، ولمعرفة مستحق النفقة, ولذلك جاء الجواب في الآية مطابقاً للسؤال, فقد بينت الآية في الجواب نوع الإنفاق ثم بينت نوع الأشخاص المستحقين للنفقة.

بشأن السؤال الاول: ذكرت الآية في الجواب كلمة (خير) (قل ما أنفقتم من خير) لتبين بشكل شامل ما ينبغي أن ينفقه الانسان، فما ينبغي أن ينفقه الإنسان هو كلُ مالٍ أو عملٍ أو شيء يشتمل على الخير وتكون فيه فائدةٌ للناس، لان الخير يشمل كل ما هو مفيدٌ للآخرين سواء كان ذلك الخير شيئاً مادياً أو معنوياً، فكل شيئٍ يسدُ حاجة الناس وينفع الناس ويرفع من مستوى الناس سواء كان مالاً أو طعاماً أو لباساً أو مسكناً أو علماً أو جهداً وطاقة أو جاهاً فهو إنفاق في سبيل الله وهو مطلوب ويدخل في مضمون الخير الذي تتحدث عنه الآية.

ونلاحظ بأن السؤال نفسه الذي ورد في هذه الآية تكرر في آية أخرى ولكن جاء الجواب فيها بصيغة مختلفة عن الجواب الذي جاء في هذه الآية, فقد جاء في آية أخرى من سورة البقرة قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) ـ 219.  فقد ورد في تفسير كلمة العفو أنه الحد الوسط, أي راعوا الحد الوسط في الإنفاق أو انفقوا مما زاد عن حاجتكم، ولذلك فقد جاء عن الإمام الباقر(ع) أن العفو ما فضل عن قوت السنة أي عن حاجة السنة.

كما ورد أن العفو هو أفضل المال أي أنفقوا من أفضل مالكم.

وعلى هذا الاساس تكون هذه الآية منسجمة في المضمون مع الآية التي نحن بصددها، فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبين نوع الاشياء التي ينبغي أن ينفقها الإنسان (ما أنفقتم من خير). وهذه الآية: (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) تبين وضعية الشيء الذي ينفق من حيث الجودة والرداءة، وأن الخير الذي ينفقه الإنسان ينبغي أن يكون من أفضل المال، أو يبين حدود النفقة وحجم النفقة وأنه يكون مما زاد عن الحاجة بحيث لا يتسبب بخللٍ في المعيشة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود بالعفو في الآية الأخيرة هو الصفح والتسامح, أي الصفح عن أخطاء الآخرين وعن إساءاتهم. وبذلك يكون معنى الآية أنفقوا الصفح والمغفرة والتسامح على الآخرين اتجاه أخطائهم, على قاعدة من واجهك بالإساءة فواجه بالعفو والصفح عنه.

وبناءاً على هذا المعنى، تكون هذه الآية ناظرةً إلى توسيع أنواع الإنفاق والنفقة, وأن النفقة على الآخرين كما تكون بالمال تكون أيضاً بالعفو والصفح عن الإساءة والأخطاء.

وأما بشأن السؤال الثاني أي السؤال عن موارد الإنفاق ومستحقي النفقة أي على من أنفق واتصدق؟ فالآية تحدد مجموعة من الاشخاص الذين يستحقون النفقة بحسب الأولويات، فإن الإنسان لا يستطيع أن ينفق على كل العالم ولا يستطيع أن ينفق على كل الناس، إذن لا بد من أن يختار الأولويات في أكثر الناس حاجة. فمن أكثرُ الناس حاجة؟ ومن أكثرُ الناس ضرورة لأن ننفق عليه؟ الآية تقول (وما أنفقتم من خير فللوالدين).

فالإية تذكر الوالدين أولاً, أي الأب والأم باعتبار أن الإنسان مسؤول عن والديه عندما يحتاجان إليه، فإنفاق الولد على والديه واجب شرعي, فإذا كان والداك محتاجين مادياً وأنت قادر على إعالتهما والإنفاق عليهما فإعالتهما واجبة عليك.

(والأقربين) وهم الزوجة والأولاد فإن الإنفاق عليهم واجب، وكذلك الأرحام كالأخوة والأعمام والأخوال وأبناءهم فإنه يستحب استحباباً مؤكداً أن تنفق عليهم إذا  كنت قادراً على ذلك.

(واليتامى) وهم الذين فقدوا الأب، وفقدوا المعيل فإن الإسلام جعلهم تحت رعاية المجتمع, وحمل المجتمع مسؤولية الإنفاق عليهم.

(والمساكين) وهم الفقراء الذين لا يملكون قوة سنتهم فلا يملكون المال ولا العمل الذي يستطيعون من خلاله أن يؤمنوا عيشاً كريماً, فإن هؤلاء من مستحقي النفقة أيضاً.

(وابن السبيل) وهو المسافر الذي فقد متاعة وماله فانقطع من المال في الطريق قبل أن يصل إلى وطنه.

ثم تقول الآية: (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم)، ولعل في هذه الجملة إشارة إلى عدة أمور:

الأول: إنه ينبغي أن يكون الإنفاق من الاشياء التي يرغبها الإنسان ويحبها لا أن يكون من الفضلات والأشياء الرديئة، كما قال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران/92. وكما قال في موضع آخر: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه) البقرة/267.

الأمر الثاني: إنه ينبغي أن لا يكون الإنفاق مصحوباً بالأذى وبالمن على الآخرين كما قال تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتبعون ما أنفقوا منَّاً أو أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

والأمر الثالث: أنه يحسن بالمنفقين أن لا يصروا على إطلاع الناس على أعمالهم وإحسانهم وأنه من الأفضل للإنسان أن ينفق في السر تأكيداً لإخلاصه في العمل، وتأكيداً على أن عمله هذا إنما هو لوجه الله وليس من أجل السمعة والشهرة، لأن الذي يجازي على الإحسان وهو الله عليم بكل شيء، ولا يضيعُ عنده عز وجل أي عمل يصدر من الإنسان في السر أو في العلانية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين