الحلقة 35

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ آتينا موسى الكتاب والفُرقان لعلكم تهتدون، وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم).

المقصود بالكتاب والفرقان في الآية الأولى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفُرقان) شيء واحد وهو التوراة التي أنزلها الله على موسى (ع) من أجل هداية بني إسرائيل إلى الحق، لأن المراد بكلمة الكتاب في الآية هو التوراة، وأما كلمة الفرقان فمعناه الشيء الفارق بين الحق والباطل، وهي هنا وصف للتوراة لأن التوراة فارقة بين الحق والباطل., بل إن كلمة الفرقان تستعمل وصفاً لكل كتاب سماوي ولكل شريعة إلهية، لأنه ما من كتاب نزل من عند الله, وما من رسالة إلهية وشريعة إلهية إلا وهي فارقة بين طريق الحق وطريق الباطل، وبين خط الله وخط الشيطان.

وفي هذه الآية أراد الله أن يذكر بني إسرائيل بنعمةٍ أخرى من نعمه الكبيرة عليهم، بل هي من أهم النعم المعنوية التي أنعم الله بها عليهم، وهي نعمةُ نزول التوراة على موسى من أجل هدايتهم إلى الحق، ومن أجل هدايتهم إلى الصراط المستقيم.

والتوراة هي أفضل كتابٍ إلهي بعد القرآن الكريم، وقد جاء هذا الكتاب حصيلة مناجاة موسى مع ربه في مدى أربعين ليلة، فقد كان موسى قد أخبر بني إسرائيل بان الله سينزلُ عليهم كتاباً من عنده فيه بيان ما يحتاجون إليه.

بل في بعض النصوص إنه لما أهلك الله فرعون وجنوده وأتباعهُ، لم تكن التوراة قد نزلت بعد, فطلب بنو إسرائيل من موسى أن يأتي لهم بكتابٍ من عند الله، فسأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب, فأمره الله بالذهاب إلى جبل الطُورِ الايمن, فذهب حيث أمره الله ومكث اربعين ليلة هناك منقطعاًعن مجتمعه وقومه، ومتفرغاً لمناجاة ربه، فأنزل الله عليه خلال هذه المدة الألواح والأسفار التي يتكون ويتالف منها كتابُ التوراة.

والمعروف أن التوراة نزلت على موسى دفعة واحدة وليس بصورة تدريجية كما هو الحال في القرآن الكريم, فإن القرآن الكريم نزل على رسول الله (ص) بشكل تدريجي في مدى ثلاث وعشرين سنة وفي مناسبات مختلفة حسبما كانت تقتضيه المصلحة والمناسبة آنذاك.

وقد بين اللهُ سبحانه في آية أخرى، في سورة الاعراف بعض خصائص التوراة والمضمون الذي اشتملت عليه فقال تعالى: (وكتبنا له في الالواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوةٍ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) الاعراف/145.

والذي يستفاد من هذه الآية أن التوراة اشتملت على بيان المواعظ والحق والباطل والحلال والحرام والأوامر والنواهي التي ينبغي أن يسيروا عليها, كما احتوت تفصيل كل شيء مما يحتاجه بنو إسرائيل في تلك المرحلة الزمنية من القضايا التي تتصل بحياتهم الفكرية والروحية والأخلاقية وغيرها، وتبني شخصيتهم الرسالية والإيمانية وتفتح أمامهم مجالات الحياة السعيدة.

إن الله يخاطب اليهود في هذه الآية ليذكرهم بهذه النعمة المعنوية التي منّ بها عليهم، وليقول لهم: إن إنزال الكتاب على موسى إنما هو من أجلكم, وإن هذا الكتاب هو نعمة عظيمة أنعمها اللهُ عليكم, لأنه سبيل هدايتكم إلى الله وإلى طريق الإيمان والحق، لان الاهتداء إلى طريق الحق هو نعمة عظيمة كبيرة، وأيُ نعمةٍ أعظمُ من النعمة التي تفتح للإنسان مجالات الحياة السعيدة المطمئنة برحمة الله ورضوانه، وأيُ نعمة أعظمُ من النعمة التي تبني شخصية الإنسان وحياة الإنسان على أساس ثابت وعلى قاعدة ثابتة على المبادئ الحقة والقيم الكبيرة والأخلاق الرفيعة, وأي نعمة أعظم من نعمته التي تقود الإنسان وتسير به نحو المصير الآمن الذي لا يخاف فيه شيئاً، وتجعله يسير في النور عندما يفكر وعندما يعمل وعندما يتعاون مع الآخرين وعندما يتخذ المواقف.

إن ما نستفيده من الآية الأولى هذه: ان النعمة ليست هي الأشياء المادية فقط, النعمة ليست هي الأكل الجيد والشراب الجيد والملك الكثير والأثاث الفاخر والسيارة الفخمة وما شاكل ذلك من الأشياء المادية فقط، النعمة أيضاً هي كل شيء ينتفع الإنسانُ منه في حياته الفكرية والروحية والعملية.. النعمة هي كل شيء ينفع الإنسان في مصيره في الدنيا وفي الآخرة، وكل شيء يرفع من المستوى الروحي والاجتماعي للإنسان.

 ومن هنا فإن التوراة تكون نعمة والقرآن يكون نعمةً, بل القرآن من أعظم النعم الإلهية على الإنسان, لأنه سبيلُ هداية الإنسان إلى القيم والمبادئ الروحية التي ترفع من مستوى حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التوابُ الرحيم).

هذه الآية تعود لتذكر اليهود بانحرافهم الكبير عن مبدأ التوحيد عندما تخلو عن إيمانهم برسالة موسى وتوجهوا لعبادة العجل، ثم تبين كيفية التوبة من هذا الانحراف الذي هو أكبر انحراف ارتكبوه في تاريخهم مع موسى (ع).

إن عبادتهم للعجل لم تكن مسألة هينة، لأن بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات الله ومعجزات نبيهم موسى (ع) ونِعم الله الكبيرة عليهم ثم نسَوا ذلك دفعة واحدة بمجرد أن غاب عنهم موسى فترة قصيرة, حيث انحرفوا تماماً عن دين الله، واتجهوا نحو عبادة العجل.

ولذلك كان لا بد من اقتلاع جذور هذه الظاهرة الخطرة، كي لا تعود إلى الظهور مرة ثانية خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة.

ومن هنا كانت الأوامر الإلهية تقضي بأن يتوب أولئك الذين انحرفوا من بني إسرائيل واتجهوا نحو عبادة العجل أن يتوبوا إلى الله ولكن بطريقة مختلفة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأنبياء, فقد صدرت الأوامر الإلهية أن يقتل المذنبون بعضُهم بعضاً بصورة إعدام جماعي بأيديهم.

وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وعذاب ما يحل بنفسه من قتل وإعدام.

وقد جاء في بعض النصوص أن موسى أمر في ليلةٍ مظلمة كل المنحرفين الذين عبدوا العجل أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويضربوا رقاب بعضهم بالسيف.

إن السبب في شدة هذا الحكم كما ذكرنا يعود إلى فداحة الذنب الذي ارتكبوه بعد كل ما شاهدوه من معاجز ونعمٍ إلهية، وإلى أن هذا الذنب يهدد وجود الدعوة ومستقبلها, خاصة وأن بني إسرائيل كانوا على مر التاريخ قوماً متعنتين ولجوجين.

فلا بد إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال القادمة عن السقوط في هاوية الانحراف والشرك وعبادة الاصنام, ولكن اليهود كما يشهد واقعهم التاريخي لم يعتبروا ولم يتعظوا حتى من هذا العقاب الصارم، فانحرفوا مجدداً وارتكبوا أعمالاً وممارسات بحق الرسالة والدين والإنسانية لا تقل عن ذنبهم القديم في عبادتهم للصنم والعجل، ويكفي أن نذكر هنا أنهم حرفوا كلام الله في التوراة، ومسخوا شريعة موسى, وقتلوا الأنبياء, وسفكوا الدماء, وليس ذلك إلا لأن الخيانة والجريمة جزء من ذهنيتهم وعقليتهم المنحرفة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين