خلافة الإنسان على الأرض (23)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ قال ربُك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفِك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: إني أعلم ما لا تعلمون).

(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماءِ هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)

(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون).

الآيات السابقة ذكرت أن الله سبحانه خلق جميع ما في الأرض من أجل الإنسان، وفي هذه الآيات يقدرُ الله سبحانه بشكل واضح وصريح خلافة الإنسان على الأرض، ويبين مكانة الإنسان التي استحق لأجلها كل هذه المواهب والنعم الإلهية.

ونحن في هذه الآيات نقرأ حواراً مثيراً بين الله سبحانه وبين الملائكة عندما شاء الله تعالى أن يخلق على ظهر هذه الأرض موجوداً يكون فيها خليفته، ويحمل من المواصفات والمؤهلات التي تجعله يتقدم على الملائكة وتسمو مكانته على مكانة الملائكة.

ففي البداية كما توضح هذه الآيات: اوحى الله إلى الملائكة أنه جاعلٌ في الأرض خليفة, فتوجه الملائكة بالسؤال إلى الله مستفسرين لا معترضين (قالوا: أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفِك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)؟ أي كيف تستخلف الإنسان في الأرض وهو الذي لا يقوم بمهمة الخلافة كما يجب, بل يجعل من الحياة مجالاً للفساد وسفك الدماء، ويطرح الملائكة في هذه الآية وضمن سؤالهم أنفسهم كبديل  لهذا الخليفة, باعتبار أنهم هم يستطيعون أن يمارسوا دور الخليفة في الارض بإخلاص, فهم الذين يسبحون الله ويقدسونه من دون أن يصاحب ذلك أيُ شرٍ أو فساد, فهم بحسب وجهة نظرهم أحق بالخلافة من الإنسان, ولكن الله أجابهم على ذلك وبيّن لهم ان دور الخليفة في الأرض لا يقتصر على العبادة بمعنى التقديس والتسبيح, بل دوره أبعد من ذلك, وهو قيادة الموجودات في الأرض والتعامل معها، والله قد منح الإنسان من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومواهب ما يؤهله للقيام بهذا الدور, فهو يملك المعرفة والعلم وهو ما لا تملكونه, ولأجل ذلك فهو يملك ما يؤهله لأن يكون خليفة الله في الارض دونكم.

هذه خلاصة الفكرة التي يدور حولها الحوار بين الله والملائكة في هذه الآيات.

ونحن نريد أن نتحدث في هذه الآيات حول عدة نقاطٍ باختصار:

النقطة الاولى: إن الخليفة في قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) هو النائب عن الغير, فالله جعل الإنسان في الأرض خليفةً ينوب عن غيره، فمن هو الغيرُ الذي ينوبُ الإنسان عنه؟؟

بعض المفسرين قال: إن الإنسان خليفةُ الملائكة, باعتبار أن االملائكة كانوا يسكنون في السابق على ظهر هذه الأرض، فجاء الإنسان ليخلف الملائكة على هذه الأرض.

وبعضهم قال: إن الإنسان خليفة بشرٍ آخرين، أو موجودات أخرى كانت تعيش قبل خلق آدم على الأرض وذلك استناداً إلى الأحاديث التي تقول: (إن قبل آدمكم هذا ألف آدم).

ولكن الصحيح أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على الأرض، كما هو رأي كثير من المفسرين والمحققين، لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الإنسان الذي قد يُفسدُ في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأن خلافة الله في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.

ومعنى أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض، هو أن الإنسان بما يملكه من عقل وشعور وإدراك وكفاءة خاصة هو المؤهل ليتولى بالنيابة عن الله إدارة الأرض، وبنائها واعمارها وقيادة ورعاية الموجودات الأرضية والتصرف فيها على وفق إرادة الله, وعلى أساس النظام الذي وضعه الله عز وجل.

 ومن هنا يتبين ويتضح أن الله أعدّ للإنسان دوراً كبيراً في هذه الحياة وحمله مسؤولية كبيرة وأمانة كبيرة وهي قيادة الحياة بالطريقة التي يريدها الله, فلا بد من أن يقوم الإنسان بدوره بشكل ينسجم بين طبيعة الحياة وبين إرادة الله، ولا بد من أن يسخر القوى والموجودات التي بين يديه في سبيل بناء الحياة على أسس سليمة وخيرة، لا أن يسخرها ويستخدمها في سبيل الشرّ وتدمير الحياة ، فإذا مارس الإنسان دوره في الحياة على اساس الخير وهذا هو الشيء الذي يرفعه إلى المستوى الكبير عند الله بحيث يكون أفضل من الملائكة,  أما إذا مارس دوره في الحياة على اساس الشر وفي سبيل شهواته وأطماعه ومصالحه الذاتية فإنه يتنزل إلى أسفل من درجة الحيوان.

إذن عمل الإنسان في الحياة هو الذي يحدد قيمته ومنزلته عند الله، فيكون أفضل من الملائكة أو أحط من الحيوان.

النقطة الثانية: إننا نفهم من خلال سؤال الملائكة الذي أشار إليه قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) نفهم من تساؤلهم هذا أن الملائكة كانوا يعرفون بأن هذا الإنسان المخلوق الجديد هو موجودٌ وكائنٌ يفسد في الأرض ويمارس الجريمة، فمن أين عرفوا ذلك مع أنهم لم يجربوا هذا الإنسان بعد؟؟

هنا تنوعت أجوبة المفسرين على ذلك: فمنهم من قال: إن الله سبحانه أوضح للملائكة قبل أن يخلق الإنسان مستقبل هذا الإنسان وطبيعة أعماله, بحيث إنهم فهموا بأن هذا المخلوق سوف يفسدُ في الارض ويرتكبُ الجريمة.

ومنهم من قال: إن تنبؤ الملائكة بإفساد هذا الإنسان في الأرض، يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات إنسانية أخرى سبقت آدم وعاشت في الارض قبله، وهذه المخلوقات تنازعت واختلفت وسفكت الدماء، وأعطت للملائكة انطباعاً سيئاً وسلبياً عن حياتها وأعمالها، فعرف الملائكة من خلال ذلك أن هذا المخلوق الجديد سيمارس الفساد كما مارسته المخلوقات السابقة التي عاشت في الأرض قبله.

وربما يكون هذا التفسير أقرب إلى الواقع إذا لاحظنا الأحاديث الكثيرة التي تتحدث عن أن هناك شرائح حية من المخلوقات عاشت في الأرض قبل الإنسان، ومارست فيها الفساد والجريمة ثم انقرضت بعد ذلك، كالحديث الذي أشرنا إليه (إن قبل آدمكم هذا ألف آدم) أو ما شاكل ذلك.

ونلاحظ هنا: أن الملائكة بينوا حقيقة من الحقائق التي ترتبطُ بطبيعة عمل الإنسان في الحياة وهي أنه يمارس الفساد ويسفك الدماء، ولذلك فإن الله لم ينكر عليهم قولهم هذا، بل أشار إلى أن هناك حقائق أخرى إلى جانب هذه الحقيقة، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الحياة وموقعه المتقدم في الوجود, وهذه الحقائق لا تعرفها الملائكة.

وهذه الحقائق هي أن الإنسان يملك بحسب ما أودعه الله فيه من العقل والإرادة والشعور والإدراك والمؤهلات ما لا تملكه الملائكة، وأن هناك فرقاً كبيراً بين العبادة التي يمارسها الملائكة بشكل تكويني وهم في مأمن من الشهوات والمؤثرات والمغريات وبين العبادة التي يمارسها الإنسان باختياره بالرغم من كل ما يحيط به من مؤثرات وشهوات ووساوس شيطانية وما إلى ذلك.

ولأجل هذه الحقائق فقد جعل الله الإنسان متقدماً على الملائكة في الفضل وفي طبيعة الدور, فكان هو خليفة الله في الأرض ولم يكونوا هم كذلك.

النقطة الثالثة: ان الله يقول: (وعلم آدم الاسماء كلها) فما هي الأسماء التي علمها الله لآدم؟؟

من المؤكد أن المقصود من تعليم الأسماء ليس هو تعليم الأسماء بما هي اسماء مجردة من دون المعاني, لأن تعليم آدم مجرد الأسماء لا يعطيه فخراً وميزة كبيرة، بل المقصود أن الله علم آدم معاني الاسماء والمفاهيم والمسميات.

وقد ورد في الأحاديث والنصوص المروية عن أئمة أهل البيت (ع) وعن غيرهم أن المراد بالاسماء هو أسماء الموجودات الكونية, سواء منها الموجودات الحية كالحيوانات أو غيرها كالجبال والاودية، وما إلى ذلك.

فالله سبحانه علم آدم اسرار هذه الموجودات ومعانيها وخواصها وعرفه إليها من أجل أن يقوم بمهمته في الخلافة وفي إدارة وقيادة هذه الموجودات وفق إرادة الله.

فقد جاء في تفسير العياشي عن أبي العباس قال: سألت الإمام الصادق (ع) عن قول الله (وعلم آدم الأسماء كلها) ماذا علمه؟ فقال (ع): علمه الأرضين والجبال والشعاب والاودية, ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه.

ولعل الفقرة الأخيرة من هذا الحديث تشير إلى أن الله منح آدم قابلية التسمية ايضاً حتى يستطيع أن يضع أسماءاً للأشياء في المستقبل حتى يتمكن من أن يتحدث عن الاشياء بذكر اسمها من دون حاجة إلى إحضار عينها.

وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس انه قال: علم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس, إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الامم وغيرها.

إن هذا العلم بالكون وبأسرار ومعاني الأشياء كلها كان شرفاً وفخراً كبيراً لآدم وللإنسان.

 والشيء الذي نستفيده من ذلك أن هذه المواهب التي منحها الله للإنسان ليست شرفاً وفخراً يفرح به الإنسان فقط, بل هي مسؤولية وأمانة لديه, فليس له أن يعطلها ويجمدها دون أن يخدم فيها الآخرين, أو أن يستفيد منها في مجال التفاهات التي لا تحقق للحياة أية فائدة, بل يجب عليه أن يحركها ويستفيد منها في المجالات الخيرة التي ترفع من مستوى الناس وتبني الحياة على أسس صالحة ومتينة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين