لماذا الحمد والثناء كله لله؟ (3)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.يقول الله تعالى في سورة الفاتحة: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين).الآية الأولى من سورة الفاتحة بعد آية البسملة، تبدأ بحمد الله والثناء عليه، ولذلك سميت هذه السورة بسورة الحمد، لأن أول ألفاظها لفظُ الحمد لله كما تقدم.

وحتى نفهم هذه الآية لا بد من توضيح الفرق بين الحمد والمدح والشكر.

فالحمد في اللغة: هو الثناء على عمل حسن أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، فعندما يؤدي شخص عملاً حسناً عن وعي وإرادة، أو يكتسبُ صفةً تؤهله لأعمال الخير فإننا نحمده ونثني عليه، كحمدنا للكريم مثلاً الذي يصدر منه الكرم باختياره وإرادته, فتقول مثلاً: حمدت فلاناً لكرمه أو لجهاده أو لما شاكل ذلك.

والمدح: هو الثناء بشكل عام، سواء كان على أمرٍ اختياري, كمدحنا للكريم والمجاهد مثلاً، أو غير اختياري، كمدحنا لجوهرةٍ جميلةٍ وثمينة أو كمدحنا شخصاً لجماله وطوله مع أن الجمال والطول هما خلقة الله وليس للإنسان فيهما أي اختيار أو إرادة.

وأما مفهوم الشكر: فهو ما نبديه من ثناء بالقول أو بالعمل تجاه من ينعم علينا بنعمة معينة, ولذلك قالوا: بأن الشكر مختص بالنعمة.

والحمد لله الوارد في هذه السور وفي غيرها من سور القرآن، قد يكون على أفعاله سبحانه وتعالى التي تصدرُ عنه باختياره وإرادته، كالخالقية والرازقية والتوبة مثلاً، فإن هذه الأفعال اختيارية تصدر منه عز وجل بإرادته واختياره، وقد يكون ثناءً عليه عزوجل لصفاته لأنه عالمٌ وقادرٌ وغنيٌ، أو لأنه منزهٌ عن الشريك وعن النقص، وعن الصاحبة والولد، مع أن عدم وجود شريك له تعالى ليس فعلاً اختيارياً له، بل هو ليس من مقولةِ الفعل أصلاً، وقد حمد الله نفسه على عدم وجود شريك له في قوله تعالى في سورة الإسراء: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك)...

وإنما استحق الله الحمد والثناء الجميل، لأن كل ما في هذا الوجود من خلق وخير ورزق ونعم لا محدودة تحيطُ بنا وتغمر وجودنا وحياتنا، إنما هي من الله سبحانه, وهو وحده الذي أفاض علينا من كل ما تقتضيه صفاته وأفعاله، فهو الخالق وهو الرازق وهو المربي وهو الشافي وهو الذي يمدنا بكل أسباب الحياة وبكل ما نحتاج إليه.

وكل شيء خلقه الله وكل شيء أفاضه علينا فهو حسن وجميل (الذي أحسن كل شيء خلقه) وهو لم يخلق هذه الأشياء الحسنة بضغطٍ أو إكراهٍ من أحد, ولم يفعل ذلك بإجبار من أحد، بل فعل كل ذلك عن علم وإرادة واختيار, فما من شيء وهبه الله لنا أو أنعم به علينا إلا وهو حسن وجميل صدر منه عن إرادة واختيار, لا عن إكراه وإجبار.

وكذلك أسماؤه وصفاته الذاتية كعالم وقادر وحي وحكيم وغيرها فإنها حسنة وجميلة (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) ـ طه/ 8.

وفي آية أخرى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)  الأعراف / 80.

فالله تعالى جميل في أسمائه، وجميل في أفعاله، وأفعاله الحسنة صدرت عنه باختياره وإرادته، ولأجل ذلك استحق الحمد والثناء.

وقد دلت جملة (الحمد لله) الواردة في هذه السورة، على أن الحمد كله والثناء كله مختصّ بالله عز وجل ومنحصرٌ فيه، وذلك لأن الألف واللام في كلمة (الحمد) هي للجنس أو للاستغراق كما يقال في الأدب العربي، فكأن حقيقة الحمد، وكل فرد من افراده، وكل مرتبة من مراتبه، إنما يستحقها الله وحده دون سواه، باعتبار أن كل ما يصل إلينا من نعم وخير حتى ولو كان بالواسطة، بواسطة إنسان مثلاً كالإحسان الذي يصل إليك من والديك مثلاً، أو بواسطة الطبيعة كنعمة النور الذي تأخذه من الشمس مثلاً، فإن كل ذلك إنما هو من الله وينتهي إلى الله بالمباشرة, لأن الله هو الذي يملك الوجود كله وهو الذي يملك الأمر كله.

فإذا كان بعض خلقه مستحقاً للحمد من خلال صفاته العظيمة أو من خلال أفعاله الحسنة, كالأنبياء الذين يستحقون الثناء لصفاتهم وأعمالهم، وحتى كالأطباء الذين يستحقون الثناء لمعالجتهم النافعة للمرضى، فإن الله هو الذي وهبهم تلك الصفات، وهو الذي مكّنهم من أن يفعلوا ذلك من خلال الظروف والوسائل والإمكانات التي هيئها لهم, ولذلك فإن حمد هؤلاء حمدٌ لله، والثناء عليهم ثناءٌ على الله تعالى، ولذلك فكل فرد من أفراد الحمد له سبحانه وتعالى.

وقد روي عن مسمع بن عبد الملك, عن الإمام الصادق (ع) أنه كان في منى، واقترب منه سائل، فأمر الإمام بإعطائه عنقوداً من عنب.

فقال السائل: لم أكن بحاجته، لو أعطيتني مالاً.

فقال الإمام (ع): وسع الله عليك، ولم يعطه شيئاً.

ثم جاءه سائل آخر، فأعطاه الإمام ثلاث حبات من العنب، فأخذها السائل وقال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني.

فقال الإمام: مكانك، وأعطاه كفين من العنب، فأخذها السائل وشكر الله ثانية، وأراد أن ينصرف فقال الإمام: مكانك وقال لغلامه، كم لديك من المال؟ ثم أعطاه قريباً من عشرين درهماً.

أخذها السائل وقال: الحمد لله رب العالمين, هذا منك وحدك لا شريك لك، وأراد أن ينصرف ثالثة فقال الإمام: مكانك، ثم أحضر ثوباً وأعطاه إياه وقال: ألبسه, فلبسه السائل وشكر الله على ما ألبسه وفرح به, ثم توجه إلى الإمام وقال: يا عبد الله جزاك الله خير الجزاء، ثم انصرف.

قال مسمع: ظننت لو لم يلتفت إلى الإمام وحمد الله فقط لواصل الإمام له العطاء.

ونحن إنما نحمد الله من موقع اعترافنا وإحساسنا بعظمة الله في نفسه وفي صفاته, ومن عمق اعترافنا وإحساسنا بنعم الله وفضله، فإن الاعتراف بالفضل والنعم يفرض الشكر للمنعم، فالإنسان بعد أن يعترف بعظمة الله وصفاته، وبأن الله هو المفضل وهو الواهب وهو المربي، وأن كل خير يرجع إليه, وأن كل وجود ينطلق من وجوده، يندفع إلى حمد الله والثناء عليه من باب الواجب الفطري الذي يقتضي شكر المنعم على إحسانه، والحمد لله هنا والثناء عليه والتوجه بالشكر له، يفرض علينا أن نستخدم نعمه فيما يرضاه وفيما يريده وفي طاعته سبحانه وتعالى، وفيما ينفعُ الناس، وفيما يعود إلى الآخرين بالخير، وكل استخدامٍ لنعم الله في معصيته أو فيما يُسيئُ إلى نفس الإنسان وإلى الآخرين من حوله، معناه أن الإنسان جاحدٌ بنعم الله وكافر بها، وهذا ما نستفيده ونستوحيه من الشطر الأول من هذه الآية أعني جملة (الحمد لله).

واما الجزء الأخير من الآية (رب العالمين) فهو يشير إلى ربوبية الله المطلقة الشاملة لهذا الكون بكل ما فيه ومن فيه.

فكلمة (رب) تعني المالك والمصلح والمربي الذي يملك الرعاية والتربية والإصلاح في هذا الكون.

وكلمة (العالمين) تعني جميع الموجودات بما في ذلك عالم الجماد، وعالم النبات وعالم الحيوان، وعالم الإنسان وما إلى ذلك، وقد أشار القرآن إلى ذلك فيما حكاه من قول فرعون وموسى (عليه السلام) في سورة الشعراء الآية 23 (قال فرعون: وما ربُ العالمين؟ قال ربُّ السمواتِ والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين).

وفي آية أخرى: (قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) ـ الشعراء/ 28. إلى غير ذلك من آيات كثيرة قررت ربوبية الله لكل الموجودات.

فالله تعالى لم يخلق الخلق ليتركهم في الفراغ، أو ليهملهم فلا يهتم بهم، بل خلقهم وهو يتابعهم بالرعاية والتربية، فالله الذي أوجدك لا يزال يرعاك ويهتم بك، ويدبّر شؤونك، وهو الذي يحميك ويُرشدك ويهديك، وهو الذي يرزقك ويشفيك، وهو الذي يرعاك ويربيك، فيربي لك إحساسك من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانك، ومن خلال الاشياء التي خلقها لك من طعام وشراب وغير ذلك مما يحتاج إليه نمو جسدك, وهو الذي يربي لنا عقولنا من خلال العناصر الدقيقة التي أودعها فينا، ويربي لنا حياتنا الروحية والعملية، من خلال الرسالات التي تمثل أعلى درجات السمو والخير، وهو الذي يربي الموجودات كلها سواء منها الموجودات الحية أو النامية أو الجامدة من خلال ما أبدعه الله في النظام الكوني.

والصلة بين الخالق وسائر الموجودات هي صلةٌ دائمة ورعايةٌ مستمرة وتربيةٌ قائمة في كل وقت وفي كل حالة، فتربية الله لا تنقطع ولا تزول ولا تغيب، وإنما تملك صفة الديمومة والاستمرار. وهذا كله يفرض علينا أن نتعامل مع الله بروح الود والمحبة والامتنان والوفاء والطاعة والإخلاص، لأن من يلاحقك بالتربية والرعاية، من حقه عليك أن تتابعه بالوفاء والطاعة.

وهذا يعني فيما يعنيه، أن على الخلائق أن تتوجه إلى ربّ واحد, تُقرُّ له بالسيادة المطلقة والحاكمية المطلقة، وبذلك تكون هذه الآية من الآيات التي تدل على توحيد الله سبحانه وتعالى.

وأما آية (الرحمن الرحيم) فقد تقدم تفسيرها عند تفسير آية البسملة، حيث قلنا بأن الرحمن الرحيم: وصفان مشتقان من الرحمة، والرحمة إن نسبت إلى الله فهي بمعنى الإحسان والإعطاء والفيض، وتكرار الرحمن الرحيم هنا وبعد قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) مباشرةً، ليس لأجل التأكيد على الرحمة فحسب، بل لأجل الإشارة إلى أن تربيته ورعايته للعالمين إنما هي بدافعٍ من رحمته وعطفه وإحسانه، فهو يربينا ويرفع عنا الحاجة والعجز والضعف من خلال رحمته وعطفه علينا.

إن تكرار الرحمن الرحيم في نفس هذه السورة يوحي:

أولاً: بأن أصل الرحمة، رحمة الله، هو الحاكم على هذا الكون, ففي الدعاء: (يا من سبقت رحمته غضبه) وان أصل الرحمة والمغفرة شاملٌ وعام، فكلما كان الإنسان مقرباً من الله أكثر فهو يستفيد من هذا الأصل أكثر, وكلما ابتعد الإنسان عن الله في فكره وفي عمله كلما حُرِمَ من الاستفادة من رحمة الله وعطفه.

وثانياً: إن تكرار الرحمة في هذه السورة يوحي بأن علينا أن نتخلق بأخلاق الله، من أجل أن نربي أنفسنا تربية صحيحة في علاقتنا بالله، وفي علاقتنا بالآخرين، ما دام أن العلاقة بين الله وبين عباده هي علاقة الرحمة والرأفة (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفرُ الذنوب جميعاً).

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين