البسملة أعظم آية في القرآن (2)

تبدأ سورة الفاتحة بآية (بسم الله الرحمن الرحيم) تماماً كما تبدأ سائر السور القرآنية بهذه الآية الكريمة التي يعبر عنها (بآية البسملة) وهذه الآية هي جزء من سورة الفاتحة كما هي آية مستقلة من كل سورة من سور القرآن إلا سورة التوبة, حيث انفردت سورة التوبة عن سائر السور القرآنية

 بأنها لم تبدأ بالبسملة, وذلك لأنها بدأت بإعلان الحرب على المشركين، وإظهار البراءة منهم. (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين) وإعلان الحرب وإعلان البراءة لا ينسجم مع الرحمة الإلهية التي وصف الله بها نفسه في آية البسملة. وقوله تعالى: (بسم الله) معناه أبتداء الكلام باسم الله, وأفتتح كل أمر باسم الله، وهذا هو المتبادر من هذه الكلمة.

وكلمة (الله) اسم علم للذات الإلهية المقدسة، فإذا أردت أن تشير إلى الذات الإلهية فإنك تشير بكلمة (الله) وهي كلمة جامعة وشاملة ومستبطنة لكل أسماء الله وصفاته. أما أسماء الله الأخرى وصفاته الأخرى، كالخالق، والرزاق، والمدبر وغيرها فهي تشير إلى قسم ونوع من كمالاته عز وجل, فكلمة الخالق تشير إلى الخالقية فقط، وكلمة الرزاق تشير إلى الرازقية، وهكذا كلمة المدبر فإنها تشير إلى تدبيره عز وجل لهذا الكون وليس أكثر من ذلك، بينما لفظ الجلالة (الله) يشير إلى الله الخالق والرزاق والمدبر والحكيم والتواب وغير ذلك من صفاته وأسمائه الحسنى.

وأما الكلمتان: (الرحمن الرحيم) فهما وصفان لله عز وجل، مشتقان من الرحمة، والرحمة عندما تنسب إلى الله وعندما يتصف بها الله سبحانه، فهي بمعنى الإحسان، والإعطاء، والفيض الإلهي اللامتناهي واللامحدود الذي يُنعم الله به على سائر الموجودات, ليُمدها بأسباب الحياة، وليُتمم النقص فيها، وليرفع عنها حاجة المحتاج منها, بخلاف الرحمة تنسب إلى غير الله والتي يوصف بها الإنسان عندما يُحسن للآخرين, ويرفع عنهم العجز والحاجة والفاقة، فإن الرحمة التي تُنسب إلى الإنسان معناها رقة القلب، والتأثير الانفعالي الإيجابي الخاص الذي يستولي على القلب عند مشاهدة العاجز أو صاحب الحاجة, والفرق بين كلمة الرحمن وكلمة الرحيم هو: أن كلمة رحمان تساوي كلمة غضبان وشبعان, وهي ليست من صيغ المبالغة، وإنما هي تدل على وجود الصفة في موصوفها على النحو العام والكمال, فكلمة غضبان مثلاً كما يقول أهل اللغة معناها: الشخص الممتلئ غضباً أو الذي يغضب سريعاً.

فعندما يوصف الله بالرحمن معناها: أنه عز وجل ممتلئ رحمةً وعطاءً وفيضاً وإحسانا, ولازم ذلك أن تصدر عنه رحمات كثيرة فيرهم سبحانه المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، والكبير والصغير، والغني والفقير وما إلى ذلك.

وأما كلمة الرحيم: فهي صفة مشبهة تدل على الرحمة الثابتة والنعم الدائمة والباقية, فالرحمن ناظرة للكم، وانه عز وجل كثيرُ الرحمة، والرحيم ناظرة للكيف أي أن رحمته دائمة وثابتة وراسخةٌ وخالدة.

وهنا قد يتساءل الكثيرون من الناس، لماذا اختار الله هذين الوصفين (الرحمن الرحيم) في هذه الآية التي هي أعظم آية في القرآن، والتي يفترض أن يرددها الإنسان في مختلف شؤونه وحالاته؟

ولِمَ لم تُذكر في البسملة صفاتٌ أخرى مثل: التواب، الغفور، الكريم، العليم، الحكيم، القوي، إلى آخر ما هنالك من صفات الله؟؟

والجواب: إن المطلوب للإنسان في مسيرة حياته هو أن تشمله العناية الإلهية, فيستفيد من خالقيته تعالى خلقاً، ومن رازقيته رزقاً، ومن حكمته تدبيراً, ومن عزته عزاً، ومن قوته حماية، ومن كل صفاته الجمالية والكمالية كمالاً وجمالاً وقوةً وشفاءً وتوبةً, وكل هذه الأمور والأفعال وغيرها ترجع إلى صفة الرحمانية والرحيمية فيه عز وجل, وتنبع من رحمته وعطاءاته سبحانه وتعالى، فمن خلال الرحمة الإلهية والفيض الإلهي تصدر هذه النعم اللامحدودة عن الذات الإلهية, فيرزق ويشفي ويدبر ويتوب ويغفر لكونه رحماناً ورحيماً, فصفة الرحمة تستبطن كل هذه الصفات الكمالية لله سبحانه.

ولا توجد أية صفة أخرى تتضمن هذه الصفات، فكلمة التواب والشافي والرزاق وغيرها لا تقوم مقام رحما ورحيم تماماً، كما لا تقوم كلمةُ تواب مكان كلمة رازق لأنها لا علاقة لها بالرزق وهكذا...

أما كلمة الرحمن الرحيم فإنها تحوي سائر الصفات، لأنها تستدعي أن يشفيك الله لكونه إلهك الراحم، وأن يقويك الله لأنه أيضاً إلهُك الراحم، وأن يرزقك ويتوب عليك لكونه إلهك الراحم.

والخلاصة: إنه من باب الرحمة نصل إلى عالم الفيوضات الإلهية والعطاءات الإلهية اللامحدودة، ونحصل على كل ما تفرضه وتقتضيه صفات الذات الإلهية، ولا توجد أيةُ صفة أخرى غير الرحمانية والرحيمية قادرةٌ على تلبية حاجات الإنسان، وتحقيق طموحاته وتحصينه من اليأس.

لقد ابتدأ الله كلامه بذكر اسمه الرحمن الرحيم، ليعلمنا بأن علينا أن نبدأ كل أفعالنا وأعمالنا وأقوالنا باسمه عز وجل، فإن آية البسملة التي هي أعظم آية في القرآن تمثل أعلى درجات ذكر الله الذي لا ينبغي أن يغفل عنه الإنسان في مختلف شؤونه وأوضاعه.

وقد أكد القرآن على مسألة ذكر الله في مختلف الأوقات (وأذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً).

كما أكد القرآن على أن يذكر الإنسان ربه في داخل نفسه, من أجل أن يعيش الحضور الإلهي في شخصيته, فلا يكون غافلاً عن الله، فيتضرع الى الله ليعيش رضوانه، ويخافه ليتخلص من عقابه (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين).

وهكذا أرادنا الله أن نذكره حتى عندما نبدأ القراءة لتكون القراءة باسمه (إقرأ باسم ربك الذي خلق).

كما ورد أن الذبيحة لا يحل أكلها إلا إذا ذُكر اسم الله عليها (ولا تأكلوا مما لا يُذكر اسم الله عليه وأنه لفسق..) (وكلوا مما ذكر اسم الله عليه).

هذا التأكيد القرآني على ذكر اسم الله والابتداء باسم الله في كل الأمور وفي جميع الأحوال، تبعه تأكيد نبوي في الأحاديث والنصوص المروية عن رسول الله (ص) وعن أئمة أهل البيت (ع) على أن لا ندع البسملة في أي شيء صغيراً كان أو كبيراً. وأن نتعامل مع بسم الله الرحمن الرحيم على أنها جزءٌ من كل أمر من الأمور، وأن نعيشها إلى درجة أن تصبح جزءاً من حياتنا ومن كل ممارساتنا.

ففي الحديث عن النبي (ص): كل أمر ذي بال (أي ذي شأن) لم يذكر فيه اسم الله أو بسم الله فهو أبتر. أي فهو مقطوع وناقص.

وفي حديث آخر: كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.

وفي نص ثالث: كل كلام أو أمر ذي بال لا يُفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال: أقطع.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: لماذا يُطلب منا أن ننظر إلى البسملة أو ان نتعامل معها على أنها جزءٌ من كل أمر ذي شأن؟

ثم ما هي المعاني التي يريد الله أن يوحي بها إلينا من خلال التركيز على ذكر الله وعلى البسملة إلى درجة أن تصبح واجبةً في بعض الحالات ومستحبةً بشكل مؤكد في كثير من الحالات؟؟

إن مما لا شك فيه أن ثمة معان ومعارف في البسملة يريد الله لنا أن نُدركها بعمق وأن نتفاعل معها بوعي ومسؤولية، فما هي تلك المعاني؟

قد يقال إن الله يريد من خلال ذلك: أن يكتسب العمل بذكر البسملة شرفاً وبركة ورفعة، تماماً كما هي طريقة الناس عندما يبدأون بعمل أو يحققون إنجازاً، فإنهم يقرنون ذلك العمل أو الإنجاز ويسمونه باسم عزيز عليهم, أو باسم زعيم أو كبير من كبرائهم, ليكتسب عملُهم وإنجازُهم بذلك شرفاً وتكريماً.

ونحن لا ننكر أن العمل الذي يُبدأ فيه باسم الله ينتهي إلى التشريف والتكريم والبركة. ولكن الأمر بالنسبة لاعتبار البسملة جزءاً من كل أمر ومن كل شأن من شؤوننا لا يقتصر على هذه الاعتبارات التي يتعامل معها الناس بالطريقة السطحية, بل هو يتجاوزه لأبعد من ذلك واكبر وأعمق.

وهو: إن العمل حينما يرتبط باسم الله وعندما تكون وجهته إلى الله، فإن نسبة العمل إلى الله وكونه لوجهه الكريم، تُكسب العمل حالة من نوع ما تجعله يبقى ويستمر ويدوم، بينما عندما لا يرتبط العمل باسم الله, ولا يكون لوجه الله, فإنه لا يمتلك تلك الحالة التي تجعله يبقى وإنما يكون هباءاً منثوراً.

وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ـ أي لغير وجه الله ـ فجعلناه هباءاً منثورا) ـ الفرقان / 23.

ويقول تعالى: (أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه) ـ النور/ 39.

إذن فكل أمر يرتبط بالله ويكون لوجه الله يكون فيه جهة بقاء ودوام وخلود، وكل شيء لا يكون كذلك سيكون مبتوراً ومقطوعاً وناقصاً وسيكون هباءاً منثورا كسراب بقيعة.

والخلاصة: إن الله يعلمنا من خلال التركيز على ذكر البسملة في كل أمر من أمورنا، إن القول والعمل والشيء الذي يُبدأ فيه باسم الله ويكون لوجه الله ويرتبط بالله، يكتسب صفة الكمال والبقاء والدوام والخلود والاستمرار (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل/ 96. وإن كل عمل لا يرتبط بالله ولا يكون لوجهه الكريم فهو محدث ويقع ويحصل في الواقع والخارج, ولكنه لا يبقى ولا يدوم على المستوى المعنوي, لأنه فقد عنصر البقاء وهو الارتباط بالله، هذا من جهة, ومن جهة أخرى: فإن الله يريد لعباده أن يذكروه دائماً وفي مختلف أحوالهم وأوضاعهم ليشعروا دائماً بأن الله حاضر في داخل فكرهم وفي كل أحوالهم وشؤونهم، وأن كل وجودهم مرتبط بالله, وان كل شيء في حياتهم مستمدٌ من الله وحده, لانه هو الذي يقف خلف وجودهم وقوتهم وطاقاتهم والوسائل التي يستخدمونها في حياتهم، ليشعروا برقابة الله عليهم فيخافونه فيما يُقدمون عليه من عملٍ أو يقولونه من حديث أو يمارسونه من سلوك وموقف.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين