ملامح شخصية المؤمن (59)
- المجموعة: هدى القرآن
- 28 كانون2/يناير 2017
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2456
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنمُ ولبئس المهاد, ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد).
قلنا إن هذه الآيات اشتملت على تقسيم الناس إلى نوعين ونموذجين: نموذج الإنسان المنافق الذي يتظاهر بالإيمان وإرادة الحق والإصلاح ولكنه يخفي النفاق ويبطن أشد العداء للحق وأهله، ونموذج الإنسان المؤمن المخلص الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله.
وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن النموذج الأول وشرحنا بعض صفاته وملامح شخصيته بالمقدار الذي أشارت إليه الآيات الثلاث الاولى، وبقي أن نتحدث عن النموذج الثاني المقابل للأول الذي أشارت إليه الآية الأخيرة أعني قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد).
هذه الآية وإن كانت قد نزلت في علي (ع) بمناسبة مبيته على فراش رسول الله في الليلة التي هاجر فيها النبي إلى المدينة المنورة، إلا أنها تتحدث عن نموذج وشريحة من الناس قد يوجدون في كل زمان ومكان، تتحدث عن مجموعة من الناس يقفون في نقطة مقابلة لمجموعة المنافقين ويحملون صفات مقابل صفات المنافقين.
فالمنافق إنسان معاند مغرور باع نفسه للشيطان، وهو يحاول أن يحقق لنفسه ولذاته امتيازات عن طريق النفاق، فيتظاهر بالإيمان والإصلاح بأقواله فقط، وليس في أعماله إلا الغدر والخيانة والإفساد والتخريب.
أما المؤمن المخلص فهو إنسان باع نفسه لله من أجل الحصول على رضا الله, فإن الشراء في الآية بمعنى البيع فقوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)، أي يبيع نفسه لله من أجل أن يحصل على مرضاته، فالمؤمن يبيع نفسه كلها لله ويسلمها كلها لله ولا يستبقي منها شيئاً لغير الله, فهو يتعامل مع الله وحده ولا يريد إلا ما أراده الله ولا يتحرك إلا في ما يرضي الله ولا يطلب عزة ورفعة إلا بالله, وليس لديه هدف في الحياة سوى الحصول على مرضاة الله، ولذلك فهو حاضر أن يبذل نفسه ويقدم روحه في سبيل الله، وبذلك يتحول الإنسان المؤمن إلى عنصر نافع في المجتمع, إلى إنسان صادق مصلح خير مجاهد مضحي, وبتضحياته وأعماله الخيرة والنافعة يصلح أمر الدين ويحي الحق وتظهر الحقيقة وتستقر حياة الناس.
ونلاحظ هنا أن قوله تعالى في آخر الآية: (والله رؤوف بالعباد) بعد قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) هو للإشارة إلى أن وجود مثل هؤلاء الافراد والذين باعوا أنفسهم لله بين الناس وفي داخل المجتمع، هو لطف من الله سبحانه ورأفة ورحمة منه سبحانه بعباده، لأنه لو لم يكن بين الناس مثلُ هؤلاء المجاهدين والمضحين في سبيل الله مقابل اولئك المنافقين، لانهدمت أركان الدين والمقدسات والمجتمع، لكن الله بفضله ومنِّه ورأفته يبني بهؤلاء الصديقين المجاهدين ما هدمه أولئك المنافقون الحاقدون، وهذا المفهوم يعرضه القرآن الكريم بوضوح في سورة الحج في قوله تعالى: (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدِّمت صوامعُ وبيعٌ وصلوات ومساجد) لولا وجود المؤمنين المخلصين المجاهدين الذين يقفون في مواجهة المنافقين والخونة والمتآمرين وأعداء الدين والإنسانية لما بقيت في المجتمع قيم وأخلاق ولما بقيت الصلاة ولا المساجد ولا المقدسات، ولما بقي للناس وطن ولا عزة ولا كرامة ولا حرية، ولكان الناس يعيشون الذل والهوان والقهر والحرمان ولكان المجتمع يعيش تحت سيطرة الأشرار والخونة والمحتلين والأعداء.
ولكن بفضل هذه الشريحة المؤمنة الواعية المخلصة المجاهدة التي باعت نفسها لله يدفع الله عن الدين والقيم والأخلاق والمجتمع والوطن والأمة شر الأعداء وكيدهم ومكرهم وعدوانهم.
ومما يجب أن نلتفت إليه هنا أن آية: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) إذا لاحظناها في سياق مجموعة الآيات التي قرأناها في بداية الحديث التي تتحدث عن تقسيم الناس إلى نوعين، فإننا نجد أنها تشير إلى النموذج المؤمن المقابل للنموذج المنافق.
ولكن يمكن أن نلاحظ هذه الآية من منظار آخر بمعزل عن ملاحظتها ضمن مجموعة الآيات التي تصنف الناس إلى قسمين، فإننا إذا لاحظناها من منظار آخر أكثر شمولية، نجد أنها تتحدث عن التجارة والمعاملة الرابحة بين الإنسان المؤمن وربه، فالمؤمن بحسب مدلول الآية يتاجر مع الله ويتعامل مع الله فيبيع نفسه كلها لله مقابل أن يحصل على رضا الله.
وقد تحدثت عن هذه التجارة الرابحة بين المؤمن وربه آيات أخرى من القرآن الكريم مثل قوله تعالى في سورة التوبة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلُون ويُقتَلون). فحسب مدلول هذه الآية المؤمنون يتاجرون مع الله فيبيعون أنفسهم وأموالهم لله, والله يشتري منهم ذلك في مقابل أن يحصلوا على الجنة, فالثمن في هذه المعاملة وفي هذه التجارة هو الجنة، بينما الثمن في تلك التجارة التي تدل عليها الآية الأولى هو مرضاة الله.
وإذا أردنا أن نجمع بين هذه الآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)، وبين آية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله). إذا أردنا أن نجمع بينهما, نجد أمامنا طائفتين من المؤمنين الذي يتاجرون مع الله، طائفة تبيع نفسها لله وتجاهد في سبيل الله وتضحي على هذا الطريق والثمن هو الحصول على الجنة والنجاة من النار، وطائفة تبيع نفسها لله وتضحي في سبيل الله والهدف هو الحصول على مرضاة الله، وهذه الطائفة هي التي تتحدث عنها الآية التي نفسرها أي: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله).
إذن: هذه الشريحة التي تتحدث عنها هذه الآية ليس هدفُها من الجهاد والقتال والتضحية بالنفس الحصول على الجنة وإن كان ذلك مهماً بالنسبة إليها، بل إن هدفها وغايتها من التضحيات والجهاد هو الحصول على مرضاة الله، وهذه أعلى درجة من درجات التجارة مع الله والإخلاص له سبحانه، وهذه الدرجة الكبيرة ليس كل أحد قادراً عليها، بل بعض الناس فقط قادرون على مثل هذا العمل السامي والكبير.
ولعله لأجل ذلك بدأت الآية بكلمة (من) التي تدل على التبعيض (ومن الناس من يشري) أي أن بعض الناس فقط قادرون على بيع أنفسهم لله مقابل الحصول على مرضاة الله.
ويأتي على رأس هؤلاء وفي مقدمتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، الذي كانت حياته كلها لله وجهاداً في سبيله، فقد ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في علي (ع) حين بات في فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة، وانه لما نام على فراشه قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا علي؟ يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو متوجه إلى المدينة هذه الآية في شأن علي (ع).
ومن هنا نفهم أن هذه الآية تتحدث عن أكبر فضائل أمير المؤمنين (ع) وهذه المسألة ذكرها الرواة بالتواتر وكانت في صدر الإسلام من الواضحات بين المسلمين بحيث دفعت بمعاوية أن يرشي سمرة بن جندب بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثاً مختلفاً ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، فاختلق هذا الرجل رواية يقول فيها: إن هذه الآية نزلت في عبد الرحمان وليس في علي! ولكن أحداً لم يقبل منه حديثه المجهول، لأن الناس كانت تعرف مكانة علي (ع) ومنزلته وفضله وجهاده حتى أعدائه، وكما قال الله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون) الصف/8.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين