الحديث الرمضاني (9) الغنى وسعة الرزق

بسم الله الرحمن الرحيم (وأغنني وأوسع علي في رزقك، ولا تفتني بالبطر، وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبدني لك، ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يدي الخير، ولا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق، وأعصمني من الفخر.(

في المحاضرة السابقة قلنا اننا خلقنا لنعرف الله، لنعرف قدرته وعظمته وعظمة صفاته، فاذا عرفنا عظمته وقدرته عرفنا انه يستحق العبادة فنعبده ونطيعه ونقدسه ونشكره على عظيم مننه وعطاياه والطافه الجزيلة، فاذا عبدناه حق عبادته دخلنا في رحمته التي وسعت كل شيء، فنحن ندعوا الله ان يفرغ ايامنا لنملئها بالعلم والمعرفة وبالطاعة والعبادة لنستحق الدخول في رحمته.

وطبعا الامام(ع) لا يقصد بالتفرغ لما خلقنا له ان نترك اعمالنا وتجارتنا وارزاقنا ونترهبن ونبتعد عن الدنيا بالمطلق فانه لا رهبانية في الاسلام وقد نهت الروايات عن ذلك بشدة كما هو معروف،  ودعت الى طلب الرزق والسعي لبناء الحياة، وانما المقصود هو ان يقنع الانسان با قدر الله له في الحياة الدنيا على كافة الصعد، وان يوفقه الله ليفرغ ايامه واوقاته في العلم والعبادة لا في الفراغ واللهو واللعب والغبث، والوقت الذي لا ينشغل فيه الانسان في تسيير شؤون حياته لاينبغي اضاعة شيء منه في الفراغ وانما ينبغي استفراغه وملئه بالعمل لما خلقنا له حتى نسمو بانفسنا الى حيث مرضاة الله ورضوانه.

ولذلك الامام في الفقرة التالية عقب مباشرة بطلب الغنى من الله وان يوسع عليه في رزقه، فما المقصود بكلمة اغنني واوسع علي في رزقك؟؟

أغنني: أي أعطني وارزقني غنى النفس عما في أيدي االناس.

لان حقيقة الغنى ليس كثرة المال، لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أعطاه الله فهو يسعى دوما للمزيد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى هو غنى النفس، وهو من استغنى بما أتاه ، وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني يملك الدنيا"

والانسان إذا كان غني النفس كانت نفسه عزيزة وعظيمة لانها لا طمع لها بشيء مما في ايدي الناس واصبحت نفسا نزيهة وشريفة ونالت من المدح والثناء أكثر من الغني الذي لديه مال لكنه فقير النفس حريص على ماله يطمع بالمزيد ويتطلع الى ما عند الناس ليكون له ، فإن مثل هذا الشخص يورطه طمعه في أمور وتصرفات واعمال خسيسة لدناءة نفسه وجشعه وبخله، ويكثر ذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل.

والقناعة بما قسم الله والرضى بما وهب الله هي الاساس، ففي الحديث: ومن يستغن بالله وعطائه يغنه الله .

 قيل: معناه: يخلق في قلبه غنى، أو يعطيه ما يغنيه عن الخلق.

اذن: غنی النفس هي الأساس، ومن حصل علی غنی النفس في مراتبه العالية فقد حصل علی كل شيء وانفتح له باب كل خير في الدنيا، وهذا الأمر بالغ الصعوبة إلا أنه ممكن.


(وأوسع علي في رزقك): أي اجعل رزقك لي واسعا، وهذه الجملة ناظرة فيما يبدو الى غنى المال والرزق

فالامام يعلّمنا أن نطلب من الله تعالى غنی النفس والسعة في الرزق معاً.

وعندما يرد تعبير رزقك فإنما يراد الإلفات إلی أن الله تعالی هو مصدر الرزق وهو الذي بيده كل شيء،

والإمام (عليه السلام) هنا يطلب الكفاف في الرزق وليس الزيادة،لانه قال اوسع ولم يقل وسع علي في رزقك

لإن كلمة(أوسع) يستفاد منها أصل التوسعة وليس حجمها وكمها من باب الإفعال أما باب التفعيل (وسّع)، فيستفاد منه التكثير والزيادة وما أشبه في الغالب، كما ذكر بعض العلماء.

فالمستفاد من كلمة (وسّع) زيادة التوسعة. أما أصل تحقيق السعة إن لم تكن، فتفيدها كلمة (أوسع).
فالإمام عليه السلام انما قال: (أوسع) ولم يقل: (وسّع) ، لأن الإمام عليه السلام يطلب الكفاف، ولا يبحث عما هو أكثر من ذلك. وهذا طبعا إذا كان المقصود بالرزق الحاجات المادية كالمأكل والملبس وغيرهما.

وطبعا الدعاء وحده لايكفي بل لا بد من السعي والعمل لطلب الرزق ، كما أن السعي وحده غير مضمون النتائج، فلا بد من السعي والدعاء معاً

 ولا بد ان يكون طلب الرزق من الحلال وليس كيفما كان، وان تكون لدى الانسان قناعة وغنى نفس حتى لا يتطلع الى ما في ايدي الناس فيطمع ويندفع للحصول عليه عن طريق الحرام

والغنى وسعة الرزق هما في مقابل الفقر وعندما ندقق في الروايات نجد ان هناك فقرا مذموما وفقرا ممدوحا

فالروايات على قسمين هناك روايات كثيرة تمدح الفقر، وأُخری تذمّه، وهذا يبدو تناقضاً أو تعارضاً للوهلة الأولی، ولكن لاشك أنه لا تناقض ولا تعارض في البين لأن الموارد تختلف.
ابتداءاً لا بد من الإشارة إلی أن هناك المئات من الآيات والروايات التي تحثّ وأحياناً توجب وتفرض علی الانسان السعي والعمل من أجل الحصول علی الرزق، فلا بد أن يعمل الناس ليكسبوا أرزاقهم، كلّ حسب قدراته. وهذا الأمر يكشف أن الفقر في الأصل مذموم، لإن السعي والعمل يوجبان الحصول علی الرزق وكسب المال وطرد الفقر.
لكن إذا بذل الفرد كلّ ما بوسعه ولكنه لم يغنَ مع ذلك إما لضعف مواهبه وإمكاناته وإما لأمور مقدرة أُخری أبقته فقيراً، فهذا الفقر ليس مذموماً لاشك، وهو مورد الروايات التي يُفهم منها المدح.فالرويات التي تمدح الفقر لا تمدحه لذاته او لانه مطلوب بل تمدحه لان الانسان عمل كل جهده لكنه لم يوفق بسبب عدم قدرته.

أما إذا قصّر الانسان في السعي ولم يخرج إلی العمل وتكاسل او اعتمد على غيره وبقي فقيراً لذلك، فهذا هو الفقر المذموم، الذي قيل عنه أنه: «سواد الوجه في الدارين»، ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ملعون من ألقی كلّه علی الناس). وهناك رواية أُخری فيها توكيد:(ملعون ملعون من ألقی كلّه على الناس).

نُقل أن أحد العلماء مرّ بفقير مفترشٍ الأرض يستعطي الناس، فقال له : مدّ يدك لأعطيك مقداراً من المال وإن كان زهيداً، فمدّ الشخص يده واستلم المال فقال له العالِم: مدّ يدك الأخری واستلم مقداراً آخر، ومدّ الشخص يده الأخری واستلم مرة أُخری. ثم قال له العالِم: هناك مقدار آخر، مُدّ إحدی رجليك لأناولها لك. وهكذا فعل المستعطي. ومرة أُخری طلب العالِم منه أن يمدّ رجله الأخری وأعطاه مقداراً آخر. وأخيراً قال له: قم وقف علی قدميك وتقدم نحوي لأُناولك آخر ما تبقّی. وهكذا كان. وهنا توجه العالِم إليه وقال له: إذا كانت يدك اليمنی سالمة ويدك اليسری كذلك، وهكذا قدماك وبدنك، فلماذا تستعطي إذن؟ اذهب وكدّ في طلب الرزق!

قال الإمام الباقر( عليه السلام): سأل موسى ربه: أي عبادك أبغض إليك؟ فقال: جيفة بالليل بطال بالنهار.

ويمكن أن يكون لهذا الحديث مصاديق متعددة المراتب- فليس الأمر دائراً بين الوجود والعدم- فقد يكون من المصاديق من هو كلّ الليل جيفة وكلّ النهار بطال، فلا تأمّل عنده ولا استغفار ولا تفكّر في الليل، ولا كسب ولا عمل ولا جهاد في النهار، وهذا أبغض المراتب. ومنهم من هو بعض الليل جيفة وبعض النهار بطّال.

ان الراحة مطلوبة للإنسان سواء في الليل أو في النهار، (وإن لبدنك عليك حقاً) وهذه الراحة بالمقدار المطلوب لا تعدّ من البطالة أصلاً بل هي مطلوبة للتقوّي علی العمل والعبادة. أما ماعدا ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يضّيع حتی دقيقة واحدة من حياته.
عَنْ زُرَارَةَ قَال: إِنَّ رَجُلاً أَتَى أَبَا عَبْدِ اللَّه (الصادق) عليه السلام فَقَال: إِنِّي لا أُحْسِنُ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً بِيَدِي ولا أُحْسِنُ أَنْ أَتَّجِرَ وأَنَا مُحَارَفٌ مُحْتَاجٌ. فَقَال: اعْمَلْ فَاحْمِلْ عَلَى رَأْسكَ (أي اعمل حمّالاً) واسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ.

فالفقير الذي لا يعمل وهو قادر علی العمل هو الذي يقال عن فقره أنه سواد الوجه في الدارين، أما أولئك الذين لا يتكاسلون ولا يتقاعسون عن الجد والاجتهاد والسعي والعمل، وهم مع ذلك فقراء فأولئك المقرّبون عند الله تعالى وهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء في يوم القيامة.