النصر الالهي (27)

الدرس الكبير الذي نأخذه من خلال هذا التعليم الالهي وهو ان نقف موقف العفو والتسامح مع  القدرة ،وان لا نشعر بالغرور والاستعلاء وان لا نلجئ الى الانتقام في حالات النصر بل ان نتجه الى شكر الله وحمده وذكره باستمرار حتى لا تظهر حالات الغرور او الانتقام فينا .

 

بسم الله الرحمن الرحيم                                                                      

بسم الله الرحمن الرحيم ،اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا .

قلنا في الحلقة الماضية ان المراد بالفتح الذي اشارت اليه هذه السورة هو فتح مكة والنصر الالهي على قريش الذي من الله به على النبي والمسلمين في شهر رمضان في السنة الثامنة الهجرية .وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض ما يرتبط بهذا الفتح الاسلامي الكبير الذي بشر الله به نبيه في هذه السورة.

وقد تضمنت هذه السورة بالرغم من قلة الفاظها معان ومسائل دقيقة كثيرة نتحدث عنها في النقاط التالية لفهم محتوى ومضمون السورة بشكل جيد :

النقطة الاولى : اننا نلاحظ ان النصر في الاية اضيف الى الله فقال تعالى (اذا جاء نصر الله ) وفي كثير من الايات القرآنية نجد نسبة النصر الى الله يقول تعالى في سورة ال عمران ( وما النصر الا من عند الله)126 – ويقول تعالى(   الا ان نصر الله قريب) ،وهذا يعني ان النصر في اي حال  من الاحوال لا يكون الا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه ولا يكون الا من عنده .

طبعاً لا بد من اعداد القوة للنصر والغلبة على العدو ولا بد من تهيئة اسباب النصر ووسائله وادواته،لكن الانسان المسلم يؤمن دائما ان النصر حتى عندما تتوافر كل اسبابه العادية لا يتحقق لولا ارادة الله وتوفيقه وما اعطاه للمؤمنين من قوة العزم وشدة التحدي والثبات امام تهاويل العدو، ولذلك لا يغتر المؤمن بالنصر بل يتجه الى شكر الله وحمده على هذه النعمة الكبيرة .

النقطة الثانية : ان الحديث في هذه السورة دار عن ثلاثة امور بالتحديد : عن نصر الله ،ثم عن الفتح ،ثم عن انتشار الاسلام ودخول الناس في دين الله افواجاً.

وبين هذه الامور الثلاثة يوجد ارتباط وثيق يشبه ارتباط العلة والمعلول والسبب والمسبب ،فان نصر الله هو سبب في تحقق الفتح والفتح بحد ذاته سبب لرفع الموانع من طريق الدعوة الاسلامية وانتشار الاسلام .

فبنصر الله يتحقق الفتح وبالفتح تزال الموانع من طريق الناس فيدخل الناس في دين الله افواجا.

والذي يستفاد من هذا الترابط ايضاً  ان نصر الله والفتح هدفهما النهائي دخول الناس في دين الله وهداية البشر وليس هدفهما تحقيق مكاسب ومغانم اقتصادية او سياسية آنية او غير ذلك .

النقطة الثالثة : ان الله يوجه نبيه وكل المؤمنين والمسلمين الى كيفية التعامل مع النصر الالهي والفتح ، فالله يأمر عندما يأتي النصر والفتح ونتغلب على العدو بثلاثة امور : هي التسبيح ، والحمد ، والاستغفار .

فلا يصح ان يشعر المؤمنون بالغرور والاستعلاء عند نزول النصر والتغلب على الاعداء ،كما لا يصح ان يتخذوا موقف الانتقام وتصفية الحسابات الشخصية وانما عليهم ان يواجهوا نصر الله ،هذه النعمة الكبيرة عليهم، ان يواجهوا ذلك بالتسبيح والحمد والاستغفار .

التسبيح الذي يعني تنزيه الله عن كل عيب ونقص ، تنزيهه عن البخل والظلم والقسوة والضعف والحاجة والغفلة وغير ذلك ، والحمد يعني الثناء على الله لافعاله واعماله الجميلة ولصفاته الكمالية، نحمده ونثني عليه لاحسانه ورزقه وخلقه وشفائه ونصره وغير ذلك من افعاله الحسنة ، ونحمده ونثني عليه لكرمه وعلمه وقوته وغير ذلك من صفاته الكمالية .

والاستغفار ان تطلب العفو من الله ازاء التقصير الذي يحصل منك تجاهه.

هذه الاوامر الثلاثة تعلمنا ان نكون في لحظات النصر الحساسة ذاكرين لله ولصفات جلاله وكماله ، لان كل شيء حسن وجميل فهو منه سبحانه وتعالى.

وان نتجه الى الاستغفار لكي يزول عنا الغرور ولكي نبتعد عن روح الانتقام .

ومعنى التسبيح بالحمد في قوله تعالى : ( فسبح بحمد ربك ) هو ان التسبيح تنزيه الله عن النقص ، والحمد هو الثناء على الله لافعاله الجميلة وصفاته الكاملة .فاذا سبحت الله بالحمد وقلت سبحان ربي وبحمده فانك بذلك لم تنف النقص عن الله بالقول فقط ،بل تكون قد جئت بما يدل على انتفاء ذلك النقص عملياً لان حمدك هذا يدل على صدور فعل اختياري جميل عن الله قد تجسد في الخارج، كالرزق والخلق والرحمة وما الى ذلك، فالتسبيح بالحمد لا يعني مجرد نفي النقص والضعف عن الله بل يعني نفي النقص عن الله واثبات فعل او صفة تدل على كماله وجماله، وانك تقف لتحمده عليها وتثني عليه لاجلها ،وهنا قد نتسأل بان النبي (ص) هو مثل كل الانبياء معصوم ومنزه عن فعل ما يوجب الاستغفار ،فلماذا يأمره الله بالاستغفار في هذه السورة ؟؟

والجواب : ان الله سبحانه يخاطب النبي في هذه السورة باعتباره قائداً لكل الامة ،فالخطاب في الحقيقة موجه لكل الامة والامر بالاستغفار الوارد في السورة انما هو تعليم لكل الامة لانه :

اولاً: خلال ايام المواجهة بين المسلمين والمشركين مرت فترات عصيبة على المسلمين وضاقت صدور بعضهم وشكك البعض الاخر في وعد الله بالنصر ،كما قال تعالى مبيناً حالة المسلمين في غزوة الاحزاب (وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) الاحزاب 10-

والان بعد ان امدكم الله بالنصر واستطعتم بارادة الله وتوفيقه ان تتغلبوا على الاعداء فقد اتضح خطأ تلك الظنون والشكوك التي صدرت منكم في بعض المواقف الحرجة كغزوة الاحزاب فلا بد من الاستغفار عن ما صدر منكم في تلك المواقف من شك وظن بوعد الله سبحانه وتعالى.

وثانياً : ان عبارة (واستغفره انه كان توابا) قد يراد من خلالها تعليم المسلمين العفو والتسامح والصفح عن الاخرين ،فكما ان الله تواب كذلك انتم ينبغي ان تقبلوا توبة المذنبين والمجرمين بعد الانتصار ، فلا تطردوا المجرمين والمذنبين ما داموا منصرفين عن مواجهتكم والتآمر عليكم ، ولذلك نجد ان النبي (ص) اتخذ موقف العفو والرحمة في فتح مكة ، فعفى عن كل اولئك الاعداء الذين حاربوه وآذوه لسنوات طويلة .

 وهذا هو الدرس الكبير الذي نأخذه من خلال هذا التعليم الالهي وهو ان نقف موقف العفو والتسامح مع  القدرة ،وان لا نشعر بالغرور والاستعلاء وان لا نلجئ الى الانتقام في حالات النصر بل ان نتجه الى شكر الله وحمده وذكره باستمرار حتى لا تظهر حالات الغرور او الانتقام فينا .

وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين .