الشيخ دعموش يلقي كلمة في مؤتمر (الحج عبادة وجهاد) بدعوة من المستشارية الثقافية في لبنان وتجمع العلماء والمسلمين

نظمت  المستشارية الثقافية في لبنان وتجمع العلماء والمسلمين مؤتمراً بتاريخ يوم الثلاثاء 26/10/2010 في مطعم الساحة بيروت بعنوان (الحج عبادة وجهاد) حضره حشد من علماء الفريقين ، وقد القى سماحة الشيخ علي دعموش كلمة في الجلسة الأولى بعنوان(الحج والتواصل الحضاري بين المسلمين)     

وهذا نص الكلمة:

                                        بسم الله الرحمن الرحيم                                             

يزخر العالم الإسلامي بالكثير من الخبرات والمهارات والتجارب الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاعلامية والجهادية وغيرها الكفيلة بإحداث نقلة نوعية على مستوى الواقع الإسلامي ونموه وتطوره.

ويملك المسلمون أفراداً وجماعات على امتداد العالم الإسلامي الكثير من الكفاءات والقدرات والطاقات المتنوعة التي يمكن الاستفادة منها في مواجهة ومعالجة التحديات والأزمات التي يعاني منها المسلمون في العالم.

وليس هناك من وسيلة أعظم من الحج للتواصل الحضاري بين المسلمين ولنقل التجارب والمهارات وتبادل المنافع والخبرات باعتبار ان الحج يمثل اكبر تجمع انساني اسلامي عالمي وأفضل فرصة لتحقيق التفاعل والتكامل الحضاريين بين شعوب العالم الإسلامي.

إذ ليس الهدف من الحج إقامة الشعائر وأداء المناسك والعبادة فقط بل الهدف أيضاً التواصل بين المسلمين لمناقشة أوضاعهم وشؤونهم وقضاياهم من أجل إيجاد تلك الوحدة الراسخة وذلك التلاحم الوثيق الذي أمرت به الآية القرآنية [واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا].

وقد أكدت الآيات القرآنية والروايات الشريفة على أهمية الحج، بما يمثله من تجمع إسلامي كبير، في التواصل الحضاري بين المسلمين وذلك من خلال الحديث عن الأهداف الاجتماعية والسياسية التي تعبر عن الحكمة من تشريع الحج.

فقد قال تعالى [وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير] الحج/ 28.

فإن أعظم المنافع التي يمكن أن يحصل عليها الناس في الحج إلى جانب المنافع الروحية هي المنافع الاجتماعية والحضارية المتنوعة التي يحققها اجتماع المسلمين فيما بينهم.

وورد في الحديث عن الفضل بن شاذان عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) قال: إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل... إلى أن يقول: مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر ممن يحج وممن لا يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية، كما قال الله عز وجل [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون]. [وليشهدوا منافع لهم].

وروي ايضاً عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله الصادق(ع) فقلت له: ما العلة التي من أجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: إن الله خلق الخلق وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل الاجتماع فيه من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله (ص) وتعرّف أخباره، ويُذكر ولا يُنسى، ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها لهلكوا، وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعُميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك، فذلك علة الحج. الوسائل/ ج11ص 14.

فإن ما نستفيده من هذين الحديثين: هو أن الله سبحانه أراد للحج أن يكون ملتقى للمسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التواصل والتعارف والتكامل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حج ولمن لم يحج، وتبادل الخبرات والتجارب المتنوعة التي يملكها كل فريق من خلال واقعه وأوضاعه العامة والخاصة، وتفاعل الأفكار، وتوحيد القوى، وإيجاد قاعدة للحوار والتفاهم والتلاقي بين المسلمين، وتوفير مناخ للتشاور والتعاون فيما بينهم، وفضح مخططات العدو ومواجهة مشاريعه ومؤامراته.

كما أراد الإسلام للحج أن يكون فرصة لنشر المعارف والوعي السياسي بين الناس، وتبادل المعلومات الواقعية عن كل بلد من بلاد المسلمين، لمعرفة ما يجري فيها، وللوقوف على حقيقة الأوضاع والمستجدات السياسية، خصوصاً في ظل التشويش الإعلامي الذي تمارسه بعض السلطات لحجب الحقائق.

كما اراد ان يكون مناسبة لبحث قضايا المسلمين وأوضاعهم وازماتهم وصراعاتهم التي يعانون منها، ومن ثم تحقيق التعاون لمعالجة هذه المشكلات وإنقاذ العالم الإسلامي من أزماته وهمومه.

كما أن التواصل الفكري والثقافي، والإطلاع على دور الإسلام وأهدافه وغاياته، والتعرف على القيم التي بشر بها النبي (ص) وتسهيل حركة الدعوة إلى الله، والالتزام بالقيم الإسلامية كمنهج ثابت في حركة الأمة، هو أيضاً أحد أهم عناصر التواصل والتفاعل الحضاري بين المسلمين في موسم الحج.

وبذلك كله يتحول الحج إلى جسر للتواصل الحضاري الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي بين المسلمين، فينموا الترابط بينهم، وتترسخ روح الأخوة والمحبة والتآلف والتآخي، وتنمو العلاقات بين كل الطوائف والمذاهب والفرق، وتشحذ الهمم للإصلاح والبناء والتغيير والتطوير، كما يتحول الحج إلى وسيلة لتقريب المسافات بين المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم، وإلغاء كل الفوارق العرقية والطبيعية والجغرافية واللغوية والقومية، التي قد تشكل عائقاً أمام وحدة المسلمين وتكاملهم.

ولعل مما يؤكد كل هذه الأهداف والغايات لفريضة الحج الروايات التي تحث المسلمين على الحج المندوب وكراهة تركه، وفضيلة الإدمان عليه والتكرار له في كل عام.

فقد روي عن الإمام جعفر الصادق (ع): عليكم بحج البيت أدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا وأهوال يوم القيامة. البحار: ج74/167.

وعنه (ع) أيضاً: من حج خمس حجج لم يعذبه الله أبداً، ومن حج عشر حجج لم يحاسبه الله أبداً، ومن حج عشرين حجة لم ير جهنم ولم يسمع شهيقها ولا زفيرها.

فإن هذه الروايات تدل على أن الحج مطلوب لا لكونه عبادة فقط بل لأنه الوسيلة التي تحقق اجتماع المسلمين وتواصلهم وتفاعلهم من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية السامية.

ومن الروايات أيضاً تلك التي تدعو للذهاب إلى الحج حتى ولو بالدين لكي لا يفوت الإنسان المنافع العظيمة الروحية والسياسية والاجتماعية التي يوفرها اجتماع المسلمين في الموسم.

فعن عيسى ابن منصور قال: قال لي جعفر بن محمد الصادق (ع): يا عيسى إن استطعت أن تأكل الخبز والملح وتحج في كل سنة، فافعل.

وعن معاوية ابن وهب قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): إني رجل ذو دين فأتدين وأحج؟ فقال: نعم، هو أقضى للدين.

وفي بعض الرويات عن الإمام الصادق (ع): ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا. المستدرك: ج 8 ص 15.

إن كل هذه الروايات تقودنا إلى حقيقة واحدة هي أن للتجمع المتحقق في الحج موضوعية، باعتبار أن الحج هو العبادة الوحيدة من بين العبادات التي تحقق التواصل بين المسلمين، وهو الضامن لاستمرار التنسيق العملي والحضاري، ولو تركه المسلمون أو أهملوا مضامينه لأصبحوا تحت سلطة الأعداء أذلاء تابعين ومستعبدين.

وإذا لم يتح للمسلمين اليوم أن يحولوا الحج إلى فرصة حقيقية للتواصل، ونقل التجارب وتبادل الأفكار والخبرات بصورة واسعة بسبب هيمنة قوى سياسية ومذهبية تؤمن بعقلية صدامية تجاه بعض المسلمين، ولا تقبل بمد جسور التواصل الحضاري والسياسي والثقافي بين المسلمين على نطاق واسع ومدروس في مسوم الحج، فإن على القوى الحية في أمتنا من دول وحركات إسلامية وقوى وأحزاب وتجمعات ومؤسسات سياسية وثقافية وإعلامية وغيرها أن ترفع صوتها الهادر وتمارس نفوذها وكل أشكال الضغط وتستهدي كافة الوسائل من أجل تحويل موسم الحج إلى فرصة حقيقية لحوار فكري سليم يقوده المفكرون والعلماء الواعون من كل المذاهب الإسلامية ليصلوا إلى القناعات المشتركة أو المتقاربة وليفهموا وجهة نظر بعضهم البعض حيال مختلف قضايا الفكر الإسلامي، وليضعوا آليات مناسبة للتقارب والتفاهم والتآلف والتعاون والوحدة ومواجهة كل محاولات زرع الفتنة بين المسلمين.

كما يجب تحويل موسم الحج إلى محطة أساسية لكل فصائل المقاومة في منطقتنا من أجل شرح أهدافها ومنطلقاتها وإنجازاتها ومعاناتها وما تواجهه من استهدافات وتقديم  خبراتها وأفكارها وتجاربها لأبناء هذه الأمة وللقوى الفاعلة والمؤثرة فيها.

كما أن الحج مناسبة لنشر الوعي السياسي حول ما يدور في منطقتنا لا سيما في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها وخصوصاً لجهة المحاولات الجارية لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفتيت المنطقة وتقسيمها وجعل أهلها قبائل متناحرة، وتوحيد الجهود والقوى لمواجهة هذه المحاولات بمزيد من الوعي والتماسك والتفاهم والتعاون والوحدة.

أما الجمعيات والمؤسسات والقوى الفاعلة والمؤثرة في بلدانها فإن باستطاعتها الاستفادة من التجمع الكبير في موسم الحج بنقل تجاربها على الصعد المختلفة من أجل المساهمة في التطوير والإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي.

كما أن المطلوب أن يتحول الحج إلى مناسبة مركزية من أجل تعريف الأمة بحقيقة ما يجري في فلسطين والقدس من محاولات القضم والتهويد والتهجير والتدمير المنهجي والتدريجي للمعالم الإسلامية والاحياء العربية، وحث المسلمين على تحمل مسؤولياتهم تجاه هذه القضية المركزية وتقديم كل أشكال الدعم من أجل تحرير الأرض واستعادة المقدسات.

وبذلك كله يتحول الحج إلى جسر حقيقي للتواصل والتفاعل الحضاري بين المسلمين والقوى الحية في هذه الأمة.

 

 

والحمد لله رب العالمين