الحلف بالله عادة مرفوضة (60)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتنقفوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) ـ البقرة/224.

الأيمان: جمع يمين, واليمين بمعنى الحلف والقسم، وكلمة (عرضة) في الآية الأولى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) مأخوذة من العرض بمعنى المعرض تقول مثلاً: جعلنا البضاعة عرضة للبيع أي في معرض البيع, بحيث إنك تظهرها وتعرضها بكثرة في السوق للبيع، فإذا كانت كلمة عرضة في الآية بمعنى المعرض, يكون معنى الآية: أنه إذا أردتم أن تحلفوا فلا تجعلوا الله واسم الله في معرض حلفكم, بحيث كلما أردتم أن تحلفوا على فعل أو ترك شيء أو تثبيت شيء تحلفون بالله عليه، فإن الله لا ينبغي أن يكون في معرض الحلف والقسم.

فالآية تنهى عن الإكثار من الحلف بالله وعن القسم به دائماً وفي كل شيء، حتى في الأعمال الصالحة والخيرة التي يرضى الله بها, كالحلف بالله على الإصلاح بين الناس مثلاً.

وبناءاً على هذا التفسير تكون عبارة (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) إشارة إلى النهي عن القسم بالله حتى ولو كان القسم به لأجل فعل البر والمعروف والتقوى والإصلاح بين الناس، وحتى ولو كنت صادقاً فيما تحلف عليه.

وإذا كانت الآية تنهى عن الحلف بالله حتى في الأعمال الصالحة والخيرة فإنها بطريق أولى تنهى عن القسم بالله على ترك الأعمال الصالحة, كالحلف على ترك الإصلاح بين الناس أو كالحلف على ترك الإنفاق في سبيل الله، كما أنها تنهى بطريق أولى عن القسم بالله كذباً, كأن تحلف بالله على أنك قمت بذلك العمل وأنت في الواقع لم تقم به.

والخلاصة: إن الآية تنهى عن كثرة الحلف بالله فلا ينبغي أن يعتاد الإنسان على أن يحلف بالله على كل شيء، حقاً كان ما يحلف عليه أو باطلاً، صادقاً كان في يمينه أو كاذباً، وهذا ما أكدت عليه الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنه سبحانه يقول: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم).

كما ورد عن الإمام الصادق (ع) أيضاً وهو يخاطب أحد أصحابه واسمه سدير: "يا سدير, من حلف بالله كاذباً كفر، ومن حلف بالله صادقاً أثم, إن الله عز وجل يقول: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم).

ولعل الحكمة من النهي عن كثرة الحلف بالله حتى في الأعمال الصالحة والأمور الصادقة هو أن الله لا يريد للناس ان يتلاعبوا باسمه سبحانه وأن يستخفوا ويستهينوا به وأن يصبح اسمه مبتذلاً، فإن لاسم الله قداسةً وعظمة فلا ينبغي أن يجعله الإنسان عرضة للحلف به دائماً وفي كل شيء في الامور الصغيرة والكبيرة، فإن الحلف بالله إذا تحول إلى عادة في حياة الإنسان بحيث اعتاد أن يحلف على كل شيء فإن هذه العادة قد تؤدي به إلى أن يحلف على الكذب وعلى الأمور الباطلة، فيحلف على شيء ولم يفعله أنه فعله أو على شيء قاله أنه لم يقله وهكذا..

كما أن الابتذال والإكثار من اليمين بالله في كل شيء قد يؤدي إلى المنع من البر والمعروف والتقوى والإصلاح بين الناس، لأن الاعتياد على الحلف قد يجعل الإنسان يحلف بالله في بعض حالات الغضب والانفعال على ترك هذه الأمور الخيرة والنافعة.

وهذا ما نشاهده في حياتنا من بعض الناس عندما يمرون بحالة غضب وانفعال, حيث نراهم يحلفون بالله على ترك كثير من الأشياء التي لا يحسن بهم تركها, كالإحسان إلى الوالدين مثلاً وكالإنفاق على الزوجة، وكالإصلاح بين الناس، أو يحلفون بالله على فعل بعض الأشياء التي لا ينبغي لهم فعلها, كما إذا غضب الرجل من زوجته أو أولاده فيحلف بالله على ضربهم أو ما شاكل ذلك.

فالآية تشدد على رفض هذه الألوان من الحلف بالله، وتنهى الإنسان أن يتلاعب باسم الله وأن يتخذه حجة لفعل شيء لا يرضي الله.

مثلاً: الآن بعض الناس إذا طالبتهم بالتراجع عن فعل بعض الأعمال التي ترضي الله, كالتراجع عن قطع رحمه أو ضرب الزوجة, أو كالتراجع عن ترك أداء الدين أو ترك الإصلاح بين الناس، يقولون لك: إننا حلفنا اليمين على ذلك فلا نستطيع أن نتراجع, فيتخذون الحلف بالله على فعل الأشياء التي لا ترضي الله أو على ترك الأعمال الصالحة حجة ومبرراً لفعل المحرمات أو ترك الواجبات والأعمال النافعة.

الآية تؤكد أن كل قسم من هذا القبيل لا قيمة له ولا اعتبار, فلا قداسة لأي يمين يكون مانعاً عن أداء الأعمال الخيرة، ومانعاً عن فعل الأعمال الصالحة, فإن الله لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما أمر به من البر والمعروف والإصلاح بين الناس، وهذا ما يؤكد عليه سبب نزول الآية.

فقد ورد في سبب نزول الآية: أنها نزلت في الصحابي عبد الله بن رواحة, فقد حدث خلاف بين صهره وابنته، فحلف أن لا يدخل منزل صهره وأن لا يكلمه ولا يصلح بينه ويبن زوجته، وعندما طالبه بعض الناس أن يدخل بيت نسيبه ويصلح بينه وبين زوجته كان يقول لهم: إني حلفت بأن لا أدخل منزله وأن لا أكلمه وأن لا أصلح بينه وبين زوجته فلا يحل لي أن أفعل ذلك, فأنزل الله هذه الآية: (ولا تجعلوا اله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) ليتبين أنه لا يصح أن يجعل اسم الله مانعاً وحائلاً عن أداء الأعمال الصالحة والإصلاح بين الناس, وكل يمين من هذا القبيل لا قيمة له.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع): في تفسير هذه الآية أنه قال: "إذا دعيت لصلح بين الناس فلا تقل عليَّ يمين ألا أفعل".

إذن: الإكثار من اليمين بالله في كل شيء وجعل الله في معرض الحلف والقسم قد يؤدي إلى الاستخفاف باسم الله والاستهانة به، وقد يؤدي عندما يعتاد الإنسان على الحلف إلى المنع من فعل البر والإصلاح بين الناس، وقد يؤدي إلى أن يتخذ الإنسان اسم الله حجة لفعل بعض الأشياء التي لا يرضى الله بفعلها, ولأجل كل ذلك فإن الآية تنهى عن جعل الله في معرض الحلف واليمين، وتحذر من القسم به إلا في كبائر وعظائم الأمور وليس في كل شيء.

ومن خلال ذلك يتحدد دور اليمين ليكون في الحالات التي يريد الإنسان أن يلزم نفسه بفعل طاعة لله, كأن يحلف على أداء الدين الذي عليه أو على صلة رحمه, من أجل أن يلزم نفسه بهذه الأمور، أو أن يلزم نفسه بترك عادة سيئة لا يقوى على تركها إلا بالحلف, كالحلف على ترك التدخين مثلاً, ففي مثل هذه الحالات يتحول اليمين إلى عنصر يدعم الإرادة ويقويها باعتبار أنه يرتبط باسم الله الذي له قداسة وعظمة واحترام، فيجتمع للإنسان من خلال يمينه شيئان:

أحدهما: قداسة المضمون باعتباره شيئاً يريد الله فعله أو يريد تركه في ذاته.

ثانيهماً: قداسة الالتزام باعتبار ارتباط اليمين باسم الله.  

وبذلك يتحول اليمين إلى عنصر تربوي يستفيد منه الإنسان في الدنيا والآخرة.

                                          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين