الدعوة للإستفادة من النعم وعدم اتباع خطوات الشيطان (57)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يا ايها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه كان لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) البقرة/ 168/169.

ورد في سبب نزول هاتين الآيتين: ان بعض القبائل العربية في صدر الإسلام مثل قبيلة ثقييف وخزاعة، حرموا على أنفسهم بعض اللحوم والنباتات من دون دليل ونسبوا التحريم إلى الله وقالوا: إن الله هو الذي حرمها افتراءً، فأنزل الله هاتين الآيتين ليبين أن كل الأطعمة والنعم الإلهية محكومة بالإباحة والحلية، إلا ما قام الدليل على حرمته، وأن إصدار الأحكام بتحريم بعض الأشياء والقول بأن الله حرمها من دون علم ولا دليل صحيح, هو عمل شيطاني، واتباع لخطوات الشيطان.

ونحن هنا نريد أن نتحدث عن أهم ما تشير إليه هاتان الآيتان في نقطتين:

النقطة الأولى: إنه لا شك في أن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق على الإنسان سبل الحياة، بل يريد أن يوسع له آفاقها ومواردها ومجالاتها ليستفيد من كل ما ينفعه في حياته، ولذلك فقد خلق له الأرض بكل ما تنتجه من رزق، وبكل ما تحتوي عليه من نعم، وأباح له أن يتمتع بالرزق الطيب الحلال وبالنعم الكثيرة ولم يحرم عليه شيئاً من الطيبات مما يحتاجه وينفعه في استمرار حياته وفي نمو جسمه وعقله، بل دعاه أن يأكل ويستفيد منها ما يشاء.

وقد تكررت في القرآن الكريم دعوة الناس إلى الاستفادة من الرزق والأطعمة وغالباً ما وردت هذه الدعوة مقيدة بكلمتي الحلال والطيب كما في قوله تعالى في سورة المائدة: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً) 88.

أو كما في قوله تعالى في سورة النحل: (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله) 144.

وقوله تعالى في الآية الأولى التي نحن بصدد تفسيرها: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) يأتي في هذا السياق القرآني، فهو دعوة صريحة من الله لكل الناس أن يأكلوا ويتمتعوا ويستفيدوا مما في الأرض من نعم وخيرات ومن لحوم ونباتات وثمار وغير ذلك مما أحله الله واستحسنته أنفسكم، وفي هذه الآية أيضاً وردت الدعوة إلى الاستفادة مما في الأرض مقيدة بالحلال والطيب.

والحلال هو ما أباح الله تناوله ولم يمنع عنه، والطيب هو الشيء الحسن الذي تستطيبه نفس الإنسان وتميل إليه وتتلذذ به في مقابل الخبيث الذي يشمئز منه الإنسان ولا ينسجم مع الطبع السليم.

ولعل هذا التقييد هو للإشارة إلى أن على الناس أن يستفيدوا من الرزق والطعام الذي أحله الله واباحه، والذي تستطيبه نفوسهم مما لا يشكل ضرراً على حياتهم، وان يبتعدوا عن أكل الخبائث مما حرمه الله سبحانه كالميتة واللحوم المذبوحة على غير الطريقة الشرعية.

ومهما يكن فإن المفسرين ذكروا بأن هذا المقطع من الآية: (كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) يدل على أن الأصل في كل الاطعمة والأغذية الموجودة في الأرض هو الحلية وليس التحريم، فكل غذاء لحماً كان أو نباتاً أو غير ذلك هو حلال بحسب مدلول هذه الآية ما لم تثبت حرمته بدليل شرعي صحيح، وما دام لا يشكل ضرراً على الفرد والمجتمع.

النقطة الثانية: إن الآية تحذر من اتباع خطوات الشيطان (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) فما هي خطوات الشيطان؟؟

خطوات الشطيان هي كل ما يدعو إليه الشيطان ويؤدي إلى انحراف الإنسان عن الطريق المستقيم وعن خط الله وشريعته.

كل تفكير كل عمل أو سلوك أو قول أو موقف منحرف ومحرم يأمر به الشيطان هو من خطوات الشيطان, لأن الشيطان لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمنكر وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، هذا هو منهج الشيطان.

واتباع خطوات الشيطان هو أن تتبع الشيطان, أن تمشي وتضع قدمك في موضع قدمه، وأن تنطبق مشيتك على مشيته، وأن تستجيب لما يأمرك به ويدعوك إليه, سواء كان يدعوك إلى الفكر الحرام أو إلى الأكل الحرام أو إلى الشرب الحرام وإلى اللعب الحرام أو إلى العلاقة المحرمة، أو إلى القول الحرام أو إلى أي فعل حرام آخر..

فقد يغريك الشيطان لتكون واحداً من التيارات المنحرفة الضالة, أو لتكون واحداً من الخونة لبلادهم وأهلهم وشعبهم، وقد يزين لك أن تأكل مما حرمه الله عليك من لحوم الميتة ولحم الخنزير وغير ذلك مما يعود بالضرر على نفسك وجسمك وعقلك وحياتك، وقد يسول لك أن تشرب الخمر أو تلعب بالقمار أو تتعاطى بالمخدرات, فإنك إذا استجبت له في ذلك وفعلت هذه السيئات والمنكرات فإنك بذلك تكون قد اتبعت خطوات الشيطان.

ان تثير العداوة والبغضاء بين الناس وتعمل على إثارة الفتنة, معناه انك تتبع خطوات الشيطان، لأن إثارة الفتنة من خطوات الشيطان.

أن ترتكب أعمالاً تتنافى مع العفة والشرف والمروءة فتتعدى الحدود التي وضعها الله للأشياء, معناه أنك تتبع خطوات الشيطان وتطيعه وتلتزم أمره.

أن تصد الناس عن ذكر الله وتشغلهم عن الصلاة والجهاد والقيام بالمسؤوليات ,معناه أنك تتحرك في خط الشيطان وتلتزم ونهجه وخطواته.

وهكذا عندما تستهلك نعم الله والموارد الطبيعية التي وهبها الله لك في سبيل الإفساد والطغيان والاستكبار، فتستخدم هذه النعم للاستعلاء على الناس والتكبر عليهم  أو للاعتداء عليهم أو لتدمير حياتهم، معناه أنك تعبد الشيطان وتطيعه وتتبع خطواته. وهكذا في كل المجالات العملية.. ما يتعلق منها بالأكل الحرام أو باللبس الحرام أو بالموقف الحرام أو بالمشاهدة الحرام أو بالاستماع الحرام أو بغير ذلك. أن تقول على الله شيئاً لم يقله أو تنسب إلى إلى الدين راياً أو  قولاً بغير علم ولا دليل صحيح, معناه أنك تتبع خطوات الشيطان.

بل إننا نلاحظ أن النصوص الإسلامية اعتبرت أن الأعمال القائمة على أساس غير منطقي هي من خطوات الشيطان.

فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل عن رجل حلف أن يذبح ابنه فقال (ع): ذلك من خطوات الشيطان.

كما ورد عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: كلُ يمينٍ بغير الله فهو من خطوات الشيطان.

وعن الإمام الصادق (ع) أيضاً أنه قال: إذا حلف الرجلُ على شيء والذي حلف عليه اتيانه خيرٌ من تركه فليأت الذي هو خير، ولا كفارة له وإنما ذلك من خطوات الشيطان.

 ومعناه أن الذي يحلف على ترك عمل خير, كأن يحلف على ترك زيارة المؤمنين والتواصل معهم مثلاً، فإن ذلك يعتبر من خطوات الشيطان, لان الشيطان يأمر ويدعو إلى ترك الأمور الخيّرة التي تفتح قلوب الناس على بعضهم.

وما يجب أن نؤكد عليه هنا وننبه إليه بشكل جيد أن عبارة: (خطوات الشيطان) الواردة في الآية قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة وهي أن الانحرافات والمحرمات تدخل إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وخطوة خطوة وليس بصورة دفعية فورية. فالإنسان لا يقع في حبائل الشيطان دفعة واحدة وإنما يتجه نحوه ونحو ما يأمره ويدعو إليه خطوة خطوة ومرحلة مرحلة.

مثلاً: تورط شخص بشرب الخمر أو بالقمار أو بالمخدرات مثلاً يتم على مراحل: يشترك أولاً بعنوان أنه متفرج في جلسة من جلسات الخمارين والمقامرين وهو يظن أنه يعمل عملاً عادياً لا إشكال ولا ضرر فيه, ثم يشترك في المرة الثانية في القمار بحجة الترويح عن النفس دون ربح أو خسارة أو يتناول شيئاً من الخمر أو المخدرات بحجة رفع التعب أو المعالجة أو تهدئة الأعصاب أو غير ذلك من التبريرات, وفي الخطوة الأخرى يمارس العمل قاصداً أنه يمارسه مؤقتاً, وهكذا تتوالى الخطوات واحدة بعد أخرى إلى أن يصبح الشخص مقامراً محترفاً ومدمناً ومتورطاً خطراً.

وساوس الشيطان وإغراءاته تدفع بالإنسان على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط والإنحراف وارتكاب الجرائم والذنوب، وليست هذه طريقة الشيطان الأصل فقط, بل هي طريقة كل الأجهزة الشيطانية الاستكبارية التي تنفذ خططها ومشاريعها المشؤومة على شكل خطوات, ولذلك فإن القرآن الكريم يحذر بشدة من اتباع خطوات الشيطان، ويحذر بصورة أشد من اتخاذ الخطوة الأولى على طريق الانحراف لأن الخطوة الأولى على الطريق توصل الإنسان إلى نهاية الطريق, فيقع الإنسان في حبائل الشيطان العدو الواضح البين للإنسان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين