القمار: أضرار كبيرة ومنافع لا تذكر (56)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يسألونك عن الخمر والميسِر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).

 

قلنا في الحلقة الماضية إن هذه الآية تشير إلى حكم تحريم الخمر وإلى حكم تحريم الميسر أي القمار, باعتبار ان هذين الامرين من الامور التي كانت منتشرة ورائجة في المجتمعات الجاهلية عند ظهور الإسلام كما هي منتشرة ومتداولة في بعض مجتمعاتنا اليوم.

وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن مدلول الآية فيما يتعلق بموضوع الخمر، ونتحدث في هذه الحلقة عن معنى ومدلول الآية فيما يرتبط بموضوع الميسر ثم نشير إلى بعض الامور التي ترتبط بجو الآية بشكل عام.

الميسر كما هو معلوم هو القمار، وكلمة الميسِر مأخوذة من كلمة اليسر اي السهل، وإنما سمي القمار ميسِراً باعتبار ان المقامر يحصل على المال من خلال اللعب بالقمار بيسر وسهولة من دون عناء او مشقة.

وقد ذكرنا أن مورد نزول الآية هو ان جماعة سألوا النبي (ص) عن حكم الخمر وعن حكم القمار, فأنزل الله هذه الآية الكريمة حيث أمر فيها نبيه الكريم بان يجيبهم بان (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).

وهذا الجواب يبين بشكل واضح وصريح أن القمار كما هو حال الخمر فيه إثم كبير ويتوقع الناس أن فيه منافع لهم، ولكن أثمه وما يستتبعه من اضرار أكبرُ بكثير من نفعه، فما هي المنافع الموجودة في القمار وكيف نفهم الإثم الكبير الذي فيه؟

أما المنافع الموجودة في القمار فهي ما يتوقعه الاشخاص المقامرون عادة من اللعب بالقمار فهم يتوقعون ان يحصلوا من خلاله على المال والثروة بـأسهل الطرق, من دون تعب او مشقة، فيعتبرون ان تلك الاموال التي يحصلون عليها من خلال القمار من دون جهد هي منفعة لهم.

وأما الإثم الكبير الذي يحتوي عليه القمار, فهو عبارةُ عن الذنب الكبير الذي يرتكبه الإنسان عندما يقدم على اللعب بالقمار, هذا الذنب الذي يولد الكثير من الاضرار والاخطار والمفاسد في مختلف جوانب حياة الإنسان, وهذه الأخطار والأضرار والكوارث الاجتماعية وغيرها، التي يولدها اللعب بالقمار في المجتمع الإنساني، هي اكبر بكثير من الفوائد والمنافع التي يتوهم الإنسان المقامر انه يحصل عليها من خلال التعاطي بالقمار، بل إن تلك المنافع التي يحصل عليها الإنسان المقامر من خلال القمار لا تساوي شيئاً أمام المفاسد والاضرار التي يولدها هذا العمل والتي تعرض المجتمع برمته للإنهيار والسقوط والجريمة.

ولعل من ابرز المفاسد والمآسي التي تترتب على ظاهرة التعاطي بالقمار والتي تصيب المقامرين انفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، هي:

أولاً: ان القمار أحدُ اكبر عوامل التوتر النفسي لدى الإنسان, فإن علماء النفس يتفقون على ان التوتر النفسي هو العامل الاساسي في كثير من الامراض، مثل امراض الجنون، وقرحة المعدة والامراض العصبية والنفسية الحادة والخفيفة. والقمار أكبر عامل على إثارة التوتر، حتى أن عالماً أمريكياً يقول: في امريكا يموت الفا شخص سنوياً نتيجة التوتر الذي يولده التعاطي بالقمار.

أضف إلى ذلك أن المقامر كما يقول علماء النفس, يصاب بتوتر روحي بل إن جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائية, كأن تزداد ضربات القلب عنده وتزداد نسبة السكر في دمه، وغير ذلك.

ويمر المقامر بعد اللعب بالقمار بفترة حرب اعصاب ويصاب بأزمة نفسية قد يلجأ نتيجتها إلى تعاطي الخمور والمخدرات لتهدئة أعصابه, الامر الذي يزيد في الطين بلة وتتضاعف بذلك أضرار القمار.

وثانياً: إن القمار يولد الكثير من الجرائم في داخل المجتمع حتى ان احد مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت: ان ثلاثين في المئة من الجرائم ناتجةٌ مباشرة عن القمار, وسبعين بالمئة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن جرائم القمار ايضاَ.

وثالثاً: إن الاضرار الاقتصادية للقمار قد يصعب إحصاؤها، فإن الملايين بل المليارات من ثروات واموال الناس تتبدد سنوياً على هذا الطريق، ويكفي أن نذكر ان في مدينة (مونتكارلو) التي توجد فيها اكبر نوادي القمار في العالم، خسر فيها شخص خلال مدة تسعة عشر ساعة من اللعب المستمر أربعة ملايين دولار، وحين أُغلق دار القمار الذي كان يلعب فيه، اتجه مباشرة إلى الغابة، وانتحر بإطلاق رصاصة في رأسه, بل إن غابات مونتكارلو تشهد باستمرار انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.

ورابعاً: إن الاضرار الاجتماعية الناجمة عن القمار هي ان القمار يمنع أصحابه عن التفكير بالعمل الجاد الانتاجي المثمر، ويشدهم دائماً إلى الحصول على ثروة طائلة بدون تعب عن طريق القمار، وهذا يؤدي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين، وبالتالي يؤدي إلى ضعف الإنتاج العام في الحياة.

أضرار القمار على المستوى الاجتماعي فادحة وكبيرة إلى درجةٍ أنها دفعت حتى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى إعلان منع  التعاطي فيه، فقد منعت الحكومة البريطانية عام 1853 من القمار, كما منعت منه أمريكا عام 1855 والمانيا سنة 1873.

وقد ورد في بعض الإحصائيات عن الجرائم التي يولدها القمار ان القمار وراء تسعين بالمئة من السرقات التي تحصل في المجتمعات التي تتفشى فيها ظاهرة القمار, كما انه وراء عشرة بالمئة من المفاسد الاخلاقية, واربعين بالمئة من حالات الاعتداء بالغرب، وخمسين بالمئة من الجرائم الجنسية، وثلاثين بالمئة من حالات الطلاق، وخمسة بالمئة من حوادث الانتحار.

هذه هي ابرز الجرائم والمفاسد والأضرار التي تترتب على القمار، ومن هنا نعلم ان المنفعة التي يحصل عليها المقامر من خلال اللعب بالقمار تكاد تكون لا شيء أمام هذه الكوارث والأضرار الكبيرة، ومن هنا أيضاً نفهم قوله تعالى: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).

وقبل أن نختم الحديث عن هذه الآية لا بد من التاكيد على بعض الأمور التي ترتبط بها بصورة عامة باختصار:

الامر الأول: إن كثيراً من المفسرين ذكر أن تحريم الخمر والقمار حصل بصورة تدريجية ولم يحصل دفعة واحدة، وان الخمر والقمار حرما بشكل نهائي في المدينة المنورة بعد الهجرة بسنوات قليلة.

ولكن الصحيح انه ليس هناك تدرج في تحريم الخمر ولا في تحريم القمار, وإنما حرما بشكل نهائي وقاطع في مكة المكرمة قبل ان يهاجر الرسول إلى المدينة, وذلك عند نزول الآية التي تقول: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) الأعراف/33. وهذه الآية كما يذكر المفسرون نزلت في مكة قبل الهجرة, وقد صرحت الآية بحرمة الإثم الذي فُسر بالخمر والقمار.

إذن: فالخمر والقمار حرما في مكة, ثم صارت تحصل تعديات ومخالفات لهذا التحريم من قبل بعض المسلمين، فكان يتكرر النهي عن الخمر في الآيات الأخرى التي نزلت بعد تلك الآية لأجل الردع عن تلك المخالفات والتجاوزات التي كانت تحصل في بعض الحالات والموارد الخاصة وليس لاجل التدرج في التحريم.

الأمر الثاني: إن الآية التي نحن بصدد تفسيرها وإن كانت بمفردها لا تدل على تحريم الخمر والقمار صراحة, لانها لم تقل الخمر حرام او القمار حرام, ولكنها تدل بشكل قاطع على تحريمهما من جهة أن الآية تدل على ان في الخمر والقمار إثم كبير (قل فيهما إثم كبير) وقد علمنا من خلال الآية التي تقول: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم)، إن الإثم محرم بنص هذه الآية، فتكون النتيجة هكذا: إن الخمر والقمار إثم وكل إثم حرام, فالخمر والقمار حرام.

والخلاصة: إن الآية تريد ان تقول إنه وإن كان يتوقع الناس من الخمر والقمار بعض المنافع كاللذة والانشراح والسرور والحصول على الاموال, إلا أن ما يترتب على هذين العملين من اضرار ومفاسد وجرائم وكوارث كثيرة وكبيرة في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة، تجعل الإنسان العاقل لا يقدم على ارتكاب هذين العملين في سبيل الحصول على منفعة ضئيلة لا تساوي شيئاً أمام تلك الاضرار الكبيرة، بل تجعل الإنسان لا يفكر حتى بممارسة مثل هذه الأعمال المحرمة التي تترتب عليها الكثير من النتائج السلبية التي تصيب مختلف جوانب حياة الإنسان والمجتمع.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين