أضرار الخمر أكبر من نفعه (55)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يسألونك عن الخمر والميسِر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما اكبر من نفعهما) البقرة/219.

هذه الآية هي واحدة من الآيات التي تتعرض إلى حكم الخمر وحكم القمار والنتائج المترتبة عليهما، والخمر والقمار وهما من الامور التي كانت منتشرة ومتداولة بكثرة في المجتمع الجاهلي في مختلف انحاء الجزيرة العربية.

ونحن نتحدث هنا عما يتعلق بموضوع تحريم الخمر على ان نتحدث عما يتعلق بموضوع تحريم القمار في الحلقة القادمة إن شاء الله.

الخمر في اللغة العربية بمعنى الغطاء والستر، والمقصود به هنا وفي المصطلح الشرعي هو: كل شراب مسكر وكل مشروب كحولي سواء كان مصنوعاً من العنب أو الزبيب أو التمر او الشعير أو أي شيء آخر.

والسبب في استعمال كلمة الخمر لكل مشروب مسكر هو من جهة ما تؤدي إليه هذه المسكرات من تغطية على العقل، فإن هذه المشروبات الكحولية لما كانت تؤدي الى فقدان العقل وتسلبه قدرة التمييز بين الامور الحسنة والامور القبيحة، معناه انها تشكل حجاباً للعقل وغطاءاً وساتراً له، فلذلك صح ان يطلق على تلك المشروبات المسكرة كلمة خمر التي تعني الغطاء والستر على الأشياء.

والخمر تاريخياً كان من الامور المنتشر بكثرة في المجتمعات الجاهلية، وكان التداول في صناعته والتجارة فيه يشكل احد الموارد الاقتصادية للناس في تلك المجتمعات، بل إن الناس في المجتمعات الجاهلية كانت قد أدمنت شرب الخمر والتعاطي بالقمار إلى درجة أن ترك مثل هذه الأمور دفعة واحدة كان أمراً شاقاً وصعباً عليهم، بحيث إن القرآن احتاج أن يكرر النهي عن الخمر خاصة في اكثر من آية وفي اكثر من مناسبة وبأكثر من اسلوب نتيجة عدم امتناع بعض الناس عنه بالرغم من تحريمه بشكل نهائي وقاطع.

ولعل مما يدل على مدى تعلق الناس في المجتمع الجاهلي وخاصة الكبار منهم بالخمر أن قريشاً وجدت في تحريم الإسلام للخمر وبعض الفواحش كالزنا والقمار وسيلة تمنع بها من أراد الدخول في الإسلام، فكانت قريش تأتي إلى من يريد الدخول في الإسلام وتقول له: إن الإسلام يحرم الخمر, فكان البعض يصرف النظر عن الدخول في الإسلام لأنه كان يستصعب ترك الخمر من شدة تعلقه به وإدمانه عليه، حتى أن الأعشى الشاعر المعروف اراد أن يسلم فمدح النبي (ص) بقصيدة كبيرة ومهمة، وقرر أن يأتي إلى رسول الله ليعلن إسلامه بين يديه، فعرفت قريش بذلك, فرصدته وانتظرته على الطريق الذي يمر عليه في رحلته إلى النبي، فلما جاء قالوا له: إلى اين تريد يا ابا بصير؟ وكان الأعشى يكنى بابي بصير، فقال: أردت صاحبكم هذا -وعني النبي- لأسلم على يديه؟ قالوا: إنه ينهاك عن أشياء ويحرمها عليك، قال وما هي؟ فقال أبو سفيان: إنه ينهاك عن الزنا. فقال: لقد تركني الزنا وما تركته قال: ثم ماذا؟ قال ينهاك عن القمار. فقال: لعلّي إذا رأيته اصبت منه عوضاً عن القمار, ثم ماذا؟ قال: إنه ينهاك عن الخمرة, فقال الأعشى: أما هذه ففي النفس منها شيء ولا أستطيع أن أتركها بسهولة، وقد بقي لي كمية من الخمر في بلدي أرجع إليها فارتوي منها عامي هذا ثم آتي النبي فأسلم بين يديه، فانصرف راجعاً ولما وصل الى بلده رماه بعيره على الأرض, فمات في ذلك العام.

الشاهد: إن الناس في المجتمعات الجاهلية التي ظهر فيها الإسلام كانت قد أدمنت على الخمر وتعلقت به تعلقاً بحيث كان يصعب عليهم تركه لأنهم يرون أن ذلك سوف يفقدهم لذة تحبها نفوسهم، ولذلك فقد كان المسلمون يسألون عن حكم الخمرة ويكررون السؤال، وكان القرآن يجيبهم بالنهي عنها ويبين لهم سلبياتها والأضرار التي تنجم عنها على اكثر من صعيد.

وقد ورد أن جماعة سألوا رسول الله (ص) عن حكم الخمر الذي يذهب بالعقل، وعن حكم الميسر, اي القمار الذي يبدد المال, فنزلت هذه الآية: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).

فالآية تبين ان في الخمر إثماً كبيراً من جهة، وأن فيه منافع للناس من جهة أخرى, وأن الإثم الذي فيه أكبر بكثير من النفع الذي يشتمل عليه.

ولأجل أن نفهم الآية بشكل جيد لا بد أن نعرف ما هي المنافع التي في الخمر , وما هو الإثم الذي فيه، وكيف يكون أثمه أكبر من نفعه؟؟

أما المنافع التي تشير إليها الآية: فإن من الواضح أن المنافع التي في الخمرة للناس فهي ما يتوقعه الناس من شرب الخمر عادة من اللذة والإنشراح والسرور، وما يتوقعونه من الارباح التجارية وكسب المال عن طريق صناعته والتجارة به وبيعه وشرائه، فهذه هي المنافع التي يقصدها الناس من الخمر.

وأما الإثم: فهو الذنب الذي يسبب للإنسان الشقاء والحرمان والضرر، ويفسد سعادة الإنسان وحياة الإنسان في اكثر من جهة، في الجسم والعقل والمال والاخلاق والعلاقات وغيرها، ومن هنا فإن الخمر يؤدي إلى إنزال أفدح الأضرار والمفاسد بروح الإنسان وحياته.

وهنا نلفت إلى أهم مفاسد الخمر استناداً إلى آخر ما توصلت إليه نظريات علماء النفس والاطباء.

فالخمر يترك نتائج سلبية على عمر الإنسان، أحد علماء الغرب المشهورين يقول: إن الشباب في سن العشرين الذين يتوقع أن تطول أعمارهم إلى خمسين عاماً لا يعمرون بسبب إدمانهم على الخمرة أكثر من خمس وثلاثين سنة.

التجارب التي أجراها بعض شركات التأمين على الحياة أثبتت أن اعمار المدمنين على الكحول اقل من اعمار غيرهم بنسبة 25 إلى 30 بالمئة.

وأما الاثر الذي يتركه شرب الخمر في الاخلاق، فيكفي أن نذكر أن العاطفة العائلية من الشخص المدمن على شرب الخمر تضعف إلى حد كبير، ويقل انشداده إلى زوجته وأولاده، حتى انه يحدث في بعض الحالات أن يقدم المدمن على قتل ابنائه والاعتداء عليهم والتخلي عنهم وعن متابعة حياتهم، وهذه احداث نسمع بها بشكل متكرر في عالمنا.

أما الاضرار التي يتركها الإدمان على تناول المشروبات الكحولية في الحياة الاجتماعية العامة، فإنه حسب الإحصائية التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة نيون منذ سنوات، كانت الجرائم الاجتماعية للمدمنين على الشكل التالي:

القتلة 50 بالمئة، المعتدون بالضرب والجرح منهم 8/77 بالمئة، السرقات بين المدمنين 5/88 بالمئة، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين 8/88 بالمئة.

هذه الإحصائيات تشير إلى أن الأكثرية الساحقة من الجرائم ترتكب في حالة السُكر.

أما الاضرار الاقتصادية الناتجة عن المشروبات الكحولية، فإن أحد علماء النفس يقول: من المؤسف ان الحكومات تحسب ما تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات, لو حسبت الحكومات الاضرار الناتجة عن المشروبات الكحولية مثل زيادة الامراض الروحية وإهدار الوقت، وحوادث السير الناتجة عن السكر, وفساد الجيل، وانتشار روح التقاعس والتحلل الأخلاقي، والتخلف الثقافي والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصصة لرعاية ابناء المخمورين، وما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائية وسجون وغيرها من الخسائر والاضرار الناتجة عن تعاطي الخمور, وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت ان الارباح تكاد ان تكون لا شيء امام الخسائر، هذا إضافة إلى ان الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار, لأن موت الناس وتشتت العوائل وتبدد الآمال وفقدان الأدمغة المفكرة لا يمكن حسابه بالمال.

الاضرار الفادحة للمشروبات الكحولية بالغة, ودفعت بعض الحكومات الى منع الوسائل الإعلامية من بث الدعايات المشجعة على تناول هذه المشروبات.

من خلال كل ما تقدم يتبين لنا بوضوح معنى الآية الكريمة: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما)، وإنما كان إثم الخمر اكبر من منفعته، لأنه وإن كان يتوقع الإنسان من الخمرة فائدة تجارية وفائدة نفسية فينشرح للحظات ويلتذ للحظات ويكسب من خلال التجارة بالخمر أموالاً بدون عناء, ولكن الكوارث والأضرار التي تنتج عن تعاطي الخمر وما يتبعه هذا العمل المحرم من الإثم والعذاب في الآخرة, والأخطار التي تترتب عليه في الدنيا, اكثر واكبر بكثير من تلك المنافع والفوائد حتى انه لا يمكن المقارنة بين الاثنين، فكيف يمكن لعاقل أن يقدم على هذا الضرر الكبير والإثم العظيم البالغ الخطورة من أجل الحصول على منفعة ضئيلة لا قيمة لها أمام المجتمع ووجوده.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين