أهداف الجهاد في الاسلام (51)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدينُ لله فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين).

هذه الآية بينت الهدف من الجهاد في الإسلام وأكدت أن الجهاد يستهدف رفع الفتنة, أي إزالة الشرك من الأرض, ويستهدفُ تحرير الناس والشعوب من عبودية غير الله.

فالجهاد إذن لا يستهدف ما تستهدفه الحروب السياسية الاستعمارية، ولا يستهدف ما تستهدفه الحروب في المجتمعات الجاهلية، الحروب الاستعمارية والجاهلية تهدف إلى السيطرة والاحتلال والتسلط على الشعوب، والحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية وسيادة طبقة بشرية على طبقة أخرى أو عنصر على عنصر آخر أو فئة على فئة أخرى.

الحروب التي تقوم وتنشب من أجل السيطرة على القوى الإنسانية والاقتصادية لشعب من الشعوب، أو من أجل احتلال شعب ما، أو لأجل مصادرة أموال وثروات ومقدرات وموارد شعب من الشعوب، أو لأجل إذلال شعب ما والسيطرة عليه على اساس عنصري أو فئوي، هذه الحروب بلا شك هي حروبُ عدوانية ظالمة من وجهة نظر الإسلام, وهي بالتاكيد مرفوضة وليست مشروعةً بمنطق الإسلام.

الهدف من الجهاد في الإسلام هو الدفاعُ والقتال ضد أي نوع من أنواع الاعتداء على الناس وحقوقهم، وإقامة العدالة الاجتماعية، وحماية المجتعات من الانحراف والضلال والفساد، وإزالة مرض الشرك والوثنية من المجتمع الإنساني وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهج الدين في الحياة وتطبيق أحكام الله.

ويمكننا تحديد أهداف الجهاد في الإسلام وأقسام الجهاد الإسلامي والحالالت التي شرع الله فيها الجهاد والقتال بثلاثة عناوين رئيسية:

الأول: الجهاد الدفاعي أي من أجل الدفاع وصد العدوان.

الثاني: الجهاد من أجل تأمين حرية العقيدة.

الثالث: الجهاد من أجل إزالة الشرك وإقرار قيم الدين ومناهجه في الحياة.

أما الجهاد الدفاعي: فهو القتال من أجل الدفاع عن الناس وأرضهم وأموالهم واستقلالهم وحقوقهم.

فقد يتعرض شخص أو جماعةُ أو شعبٌ بأكمله لعدوان أو لأخطار تهدد وجوده وحياته وارضه وممتلكاته وأمنه واستقراره، في هذه الحالة فإن على الشعب أن يدافع عن نفسه، وأن يواجه العدوان بالمقاومة، والقوة بالقوة والسلاح بالسلاح، وأن يستفيد من كل طاقاته وإمكاناته وقوته، لدفع العدوان وقمعه.

وهذا حق طبيعي تقرُه وتعترف به كل القوانين الدولية، والأعراف الإنسانية والديانات السماوية, وفي مقدمتها الإسلام الذي يؤكد على حق الدفاع ومقاومة العدوان.

يقول القرآن الكريم: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) البقرة/ 190.

ويقول في موضع آخر: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).

وفي موضع ثالث: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة). فالقتالُ من أجل الدفاع فرضٌ واجبٌ على المؤمنين عند مواجهة اعتداء الآخرين، ولا يشترطُ وقوع الاعتداء فعلاً كي تبادر إلى الجهاد الدفاعي، بل يكفي حتى تبادر إلى ذلك أن تعرف بأن العدو قرر أن يقوم بعدوانٍ مسلح، خاصة بعد أن يكون قد أقدم على سلسلة من الاعتداءات في السابق.

أمير المؤمنين (ع) يقول: "فوالله ما غُزي قومٌ في عِقر دارهم إلا ذُلوا). فلا يعقل أن تنتظر انقضاض العدو عليك وعلى أرضك وثرواتك حتى تدافع عن نفسك.

والجهاد الدفاعي له أنواع متعددة، فالجهاد الدفاعي لا يعني الدفاع عن النفس فقط كما يفكر البعض، الجهاد الدفاعي يعني الدفاع عن النفس ويعني أيضاً الدفاع عن المال والثروة والأرض، ويعني الدفاع عن الاستقلال والسيادة والحرية، ويعني الدفاع عن الشرف والكرامة والعزة، ويعني الدفاع عن المقدسات وعن أي حق من الحقوق المغتصبة, ولذلك فإن الإسلام يقول كما ورد في بعض الأحاديث: (من قتل دون أهله وماله فهو شهيد).

كما أن الجهاد الدفاعي لا يعني أن نقاتل من يقاتلنا ويعتدي على حق من حقوقنا، فقد لا يتعرض العدو لنا كجماعة أو كشعب أو كدولة، وقد لا يعتدي على أرضنا كوطن أو على مقدراتنا وثرواتنا وسيادتنا, ولا يعتدي على أي حق من حقوقنا نحن، ولكنه يرتكب ظلماً بحق جماعة أخرى أو شعب آخر فيعتدي على المستضعفين أو المسلمين في دولة أخرى ويعتدي على حقوقهم، وتكون لنا القدرة على إنقاذهم ومناصرتهم، فإن الوقوف في وجه هذا الظالم والدفاع عن المظلومين نوع من أنواع الجهاد الدفاعي, ينبغي على المسلمين في مثل هذه الحالات التضامن لمناصرة المظلومين والمستضعفين ودفع العدوان عنهم.

الله يقول (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) النساء/ 75. ويقول تعالى في موضع آخر: (وإن استنصروكم في الدين فعلكيم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) الأنفال/ 72، أي إذا طلب منكم شعب آخر تجمعكم معه وحدةُ العقيدة والدين مناصرته ودفع الاعتداء عنه, فإن عليكم المبادرة إلى نصرته إذا لم يؤدي ذلك إلى الإخلال بالمعاهدات من طرفكم.

وإما الجهاد لتأمين حرية الدعوة, فإن أحد أهداف الجهاد في الإسلام هو كفالة حرية العقيدة وانتشار الدين الإلهي الحق، ومنع فتنة المؤمنين عن دينهم.

فقد يقوم أولئك الذين يرون في الدعوة الإلهية خطراً على مصالحهم وامتيازاتهم كالمشركين واليهود، قد يوجدون جواً من الإرهاب ويمارسون الضغوطات ويوجدون الحواجز والسدود التي تمنع هذا الفكر وهذا الدين وهذه العقيدة من أن تنطلق بحرية لتصل إلى أسماع الناس، ولتأخذ موقعها الطبيعي في قلوب وعقول الناس وحياتهم، تماماً مثلما وقف المشركون في مكة المكرمة في مواجهة دعوة النبي ورسالته ومارسوا الإرهاب والتعذيب والقتل بحق المسلمين والدعاة إلى الله، ومنعوا النبي(ص) من أن يبلّغ دين الله إلى الناس، ففي مثل هذه الحالة فإن على الدعاة إلى الله إزالة الموانع والحواجز عن طريق الدعوة بالطرق السلمية أولاً, وإن لم تُجدِ الوسائل السلمية فاللجوء إلى القوة والجهاد هو السبيل الوحيد لإطلاق حرية الدعوة والعقيدة وانتشار الدين.

وكذلك لو واجه المسلمون ضغطاً لإرجاعهم عن دينهم كما حصل في مكة مع ياسر وسمية وعمار وبلال حيث واجهوا أشد انواع التعذيب على أيدي المشركين من أجل فتنتهم عن دينهم وإرجاعهم إلى الكفر، فإنه في مثل هذه الصورة يتوجه النداء القرآني الذي عبرت عنه الآية التي قرأناها في بداية الحديث (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة).

وأما الهدف الثالث للجهاد في الإسلام: فهو إزالةُ الشرك والفتنة من الوجود. فإن الجهاد في الإسلام لا يكون من أجل الدفاع عن النفس فقط أو من أجل الدفاع عن حقوق مغتصبة لشعب من الشعوب فقط، أو لأجل دفع الاعتداء من حرية العقيدة, بل الجهاد قد يكون لاقتلاع جذور الفتنة من الأرض، ولإقرار التوحيد كقيمة إنسانية كبرى. (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) الفتنة التي تتمثل بالشرك والوثنية وعبادة الأصنام والطغاة، لأن الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الاحترام، بل هما نوع من الخُرافة والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن يستأصل من الأرض مهما كلف الثمن.

هذا من جهة, ومن جهة أخرى، فإن الشرك هو القاعدة والاساس الذي ترتكز عليه قوة الكفر وقوة الضلال التي يحارب المشركون من خلالها الإسلام, والتي يضغط الكافرون بها على حرية المسلمين ليفتنوهم عن دينهم. والتي يقف على اساسها الشرك ضد كل تحرك للإسلام في العالم. ولذلك لا بد من الجهاد والقتال ضد الشرك والمشركين حتى لا يبقى هناك أساسٌ وقوة للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم, وحتى يكون الدينُ كلُه لله فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطئ قدم في الأرض.

وتضييف الآية في الجملة الأخيرة لتقول: (فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين) اي فإن انتهى المشركون عن الفتنة والشرك وآمنوا بما آمنتم به من الدين الحق المتمثل بالإسلام فلا تقاتلوهم لأنه لا عدوان إلا على الظالمين.

فالآية تطلب من المسلمين أن لا يعتدوا على أولئك المشركين الوثنيين إن عادوا عن كفرهم وفسادهم ووثنيتهم، وأن يغضوا النظر عن ماضي هؤلاء المحاربين إن عادوا إلى أحضان الإسلام والمجتمع الإسلامي، وهذا تأكيد قرآني آخر على ابتعاد الجهاد عن روح الانتقام والتشفي والثأر الشخصي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين