الحلقة 49

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).

قلنا في الحلقة الماضية: إن هذه الآية تذكر للأمة الإسلامية صفتين:

الصفة الأولى: إنها الأمة الوسط. والصفة الثانية: إنها الأمة الشاهدة على الناس.

وقد تحدثنا فيما مضى عن معنى الأمة الوسط وبقي علينا أن نبيّن معنى ومفهوم شهادة الأمة على الناس, ومعنى ومفهوم شهادة الرسول على الأمة. (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).

وقبل أن نبيّن ذلك نذكّر أننا قلنا إن معنى وسطية الأمة: أن الله سبحانه جعلها معتدلة ومتوازية في عقيدتها وفي تفكيرها وفي قيمها وفي شخصيتها وفي سلوكها الأخلاقي وفي علاقاتها وفي كل جانب من جوانب حياتها، فهي ليست متطرفة, بمعنى أنها لا تميل إلى الجانب الروحي فقط أو إلى الجانب المادي فقط كما هو الحال في بقية الأمم والشعوب, وإنما هي متوسطة ومعتدلة بين هذا الجانب وذاك الجانب.

ونضيف هنا أنه قد يكون هناك معنىً آخر للأمة الوسط، فقد يقال: إن معنى وسطية الأمة أن الله جعلها في موقع مميز في هذه الحياة باعتبار أنها تحمل أفضل الرسالات الإلهية وهي رسالة الإسلام, فجعلها في الموقع الافضل الذي تمارس فيه دور تبليغ الرسالة للناس وقيادة الناس إلى الأهداف الكبيرة والقيم الكبيرة التي تتمثل في الإسلام، فالأمة مسؤولة عن هداية وقيادة سائر الأمم, تماماً كما كان الرسول (ص) مسؤولاً عن هداية هذه الأمة وتبليغ الرسالة إليها وقيادتها نحو الأهداف الكبيرة والقيم الكبيرة والتي جاء بها الإسلام.

وربما يدلُ على هذا المعنى للامة الوسط ما ورد من أن معنى الوسط هو الفضيل والشريف والجميل، فمعنى الأمة الوسط أنها الأمة التي جعلها الله في الموقع الافضل وفي الموقع الشريف الذي تمارس فيه مسؤولية الهداية والقيادة لبقية الأمة.

وإذا كان للامة الإسلامية هذا الموقع بين سائر الامم وإذا كانت الأمة متوازنة ومعتدلة في كل أبعادها, ومعياراً أو مقياساً لتمييز الحق من الباطل, وأسوةً لبقية الناس، فهي لأجل ذلك تصيرُ شهيدةً على الناس وشاهدةً عليهم.

ومعنى شهادتها على الناس، أن هذه الأمة تشهد على ممارسات الناس وأعمالهم وأفكارهم المنافية للحق, ومواقفهم التي خالفوا فيها مبادئ وقيم وأحكام الرسالة الإلهية.

فالأمة تشاهدُ أعمال بقية الأمم في هذا العالم, وتشاهدُ تكذيبهم للحق وتمردهم على الله في أفكارهم وأعمالهم وسلوكهم, ولذلك فهي تتحمل هذه الشهادة في الدنيا وتقفُ يوم القيامة لتؤدي هذه الشهادة أمام الله، ولتشهد على أعمال الناس وعلى ما فعلوا في الدنيا بين يدي الله عز وجل، تماماً كما يشهد الانبياء على أعمال أممهم وشعبهم، وكما تشهد أعضاءُ الإنسان وجوارحُه في الآخرة على اعمال الإنسان وسلوكه ومواقفه.

وهنا ققد نتساءل: إذا كان معنى الوسط هو الاعتدال والتوازن أو الافضلية والقيادة، فهل تكون كل الأمة وسطاً أو أن المقصود من الأمة في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً) بعضً الأمة، ومجموعةٌ خاصةٌ من أفرادها ؟؟

ونفس السؤال يُطرح في الشهادة, فإذا كان معنى الشهادة أن تقف الأمة لتشهد على أعمال الناس وانحرافاتهم وتمردهم يوم القيامة، فهل تكونُ جميع الأمة شاهدةً أو أن المقصود بعضً الامة وبعض المسلمين؟؟ وليس جميعهم؟؟

والجواب عن هذا السؤال وذاك: أنه لا يمكن أن يراد بالأمة في الآية كل الأمة وجميع المسلمين, وبالتالي لا يمكن أن تكون الوسطية والشهادة صفةً لكل الأمة, وذلك لعدة أمور:

أولاً: لانه من المعلوم أن الله سبحانه ذمَّ أكثر الأمة  في كثير من الآيات فوصف الأكثرية تارة بأنهم لا يعقلون، وأخرى بأنهم لا يعلمون، وثالثة بأنهم لا يشكرون ورابعة بأنهم لا يؤمنون، وخامسة بأن أكثرهم للحق كارهون، وإذا كانت أكثرية الأمة كذلك فكيف يمكن أن تتصف كل الأمة بالاعتدال وبالقدوة والأسوة والقيادة لسائر الأمم, وكيف يمكن أن تكون كل الأمة شاهداً على الناس ومعياراً لتمييز الحق من الباطل.

وثانياً: إن الشهادة التي تتحدث عنها الآية ليست شهادةً عادية وليس المقصود بها الشهادة على الأعمال فقط بل المقصود بالشهادة شهادة الأمة على الاعتقادات القلبية للناس, والشهادة على الأفكار والنيات المتأصلة في القلوب والموجودة في داخل القلوب، والشهادة بهذا المعنى تستلزم أن يكون الشاهد الذي يشهد على الناس يوم القيامة مطلعا على اعمال االناس ومحيطاً وعالماً بالأفكار والنيات التي في القلوب، من قبل الله عز وجل.

وتقتضي أن يكون قادراً على التمييز بين الأعمال الصحيحة والأعمال الفاسدة والتمييز بين الأفكار الجيدة والأفكار السيئة, ومن الواضح أنه لا يمكن أن يصل إلى هذا المستوى من الإطلاع والعلم والإحاطة بأعمال الناس وأفكارهم ونواياهم كلُ أفراد الأمة وجميعُ افراد المسلمين، لان الذين تُعرض عليهم أعمال الناس من قبل الله ويكونون مطلعين على مواقف الناس ونواياهم، هم مجموعةٌ خاصة من أبناء هذه الأمة كما جاء في النصوص وليس جميع أفراد الأمة.

وثالثاً: إن الشهادة تفرض أن يكون الشاهدُ الذي يشهدُ على الناس أن يكون في موقع متميز وأن يكون عادلاً مطيعاً صالحاً دقيقاً عالماً ومحيطاً بمورد الشهادة، ونحن نعلم أن الأمة فيها المطيعُ والعاصي وفيها المؤمن والفاسق، وفيها العالم والجاهل فلا يمكن أن يكون الجميع شهوداً على الناس يوم القيامة، أو قدوة وأسوة ومقياساً في هذه الدنيا.

إذن: لأجل كل ذلك لا بد ان يكون المقصود بالامة في الآية التي تتصف بالوسطية والشهادة، بعض الأمة ومجموعة خاصة من أبنائها وهم: الطليعة الواعية المؤمنة التقية الصالحة المنضبطة المجاهدة التي تفهم الإسلام حق الفهم وتعيه حق الوعي وتمارسه وتطبقه حق الممارسة وحق التطبيق، وتحملُه بروح رسولية رائدة.

الأمة الوسط والشاهدة على الناس، هي النخبة الواعية الموجودة في كل زمان ومكان من الأئمة المعصومين، والعلماء الواعين العاملين، والأولياء الصالحين والمجاهدين المضحين من أبناء هذه الأمة, هؤلاء هم القدوة والقادة والحجة والأسوة لكل الأمم، وهؤلاء المعيار والميزان والمقياس للحق والباطل, هؤلاء هم الشهداء على الناس يوم القيامة.

ولذلك فقد ورد عن أئمة أهل البيت (ع) قولهم: نحن الأمة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه، نحن الشهداء على الناس، إلينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصر.

وطبعاً هذه الرواية لا تحدد المفهوم الواسع للأمة الذي ذكرناه، بل تبين المصداق الأمثل للأمة الوسط والامة الشاهدة التي هي تلك النخبة الواعية والطاهرة وتعطي نموذجاً متكاملاً لها، باعتبار أن الائمة المعصومين هم النموذج الأكمل والامثل في تلك النخبة من الأولياء والعلماء والصالحين والمجاهدين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين