الحلقة 47

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).

قلنا في الحلقة الماضية: إن الآية تشير إلى مسألتين من مسائل التشريع التي تنظم العلاقات والمبادلات المالية بين المسلمين.

المسألة الأولى: مسألة التصرف في أموال الناس بالباطل وبدون أساس شرعي.

والمسألة الثانية: مسألة الرشوة  في الحكم.

وقد تحدثنا في الحلقة الماضية حول المسألة الأولى، ونتحدث الآن حول المسألة الثانية التي أشارت إليها ا لآية بقوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).

الرشوة هي من الأوبئة الاجتماعية التي ابتُلي بها الناس وتفشت في المجتمعات والمؤسسات منذ أقدم العصور، وهذه الظاهرة المرضية كانت دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية في داخل المجتمعات الإنسانية، ومن عوامل تسخير القوانين لصالح الطبقات الغنية القادرة على دفع الرشوة.

لقد وجد القانون من أجل أن يحمي ويصون حقوق ومصالح الفئات الضعيفة من تعديات وتطاول الفئات القوية.

فالأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قدرات وطاقات أن يدافعوا عن مصالحهم وأن يحفظوا حقوقهم, بينما لا يملك الضعفاء إلا القانون ليحميهم ويصوت حقوقهم, ولا يمكن أن تتحقق هذه الحماية في جو الإرشاء أوفي مجتمع يتفشى فيه, في إداراته ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية, مرضُ الرشوة، لأن القوانين ستصبح في مثل هذا الجو ألعوبة بيد القادرين على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والاعتداء على حقوقهم وأملاكهم وأشياءهم.

ولهذا فقد شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبحَها واعتبرها من الذنوب الكبيرة التي يستحق مرتكبها دخول النار والعذاب فيها.

فقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: إياكم والرشوة فإنها محض الكفر، ولا يشم صاحب الرشوة ريح الجنة, بل عن الإمام (ع): وأما الرشا في الحكم فهوالكفر بالله العظيم، وذلك لأن الرشوة تحت أي غطاء كانت تفتت الكيان الاجتماعي وتؤدي إلى تفشي الظلم والفساد والتمييز بين الافراد في المجتمع الإنساني، وتصادرُ العدالة من جميع إداراته ومؤسساته.

والآية التي نحن بصدد تفسيرها تنهى بشدة عن الرشوة وتحذر أولئك الذين (يدلوا) أي يقدموا قسماً من أموالهم على شكل رشوة للحكام والمسؤولين والقضاة الظالمين من أجل أن يحكموا لهم بالباطل في نزاعاتهم المالية ليربحوا القضية ويحصلوا من خلال ذلك على أمور ليست من حقهم.

والآية توحي بأن هؤلاء من أبرز مصاديق الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, كما توحي بأن هؤلاء بعملهم هذا يكونون قد ارتكبوا اثمين: إثم سلب حق الآخرين، وإثم الرشوة.

ولا فرق في الرشوة بين أن تقدم للحكام والقضاة مالاً نقداً أو تقدم لهم أملاكاً كأرض أو شقة أو سيارة أو تقدم منفعة، كأن تقدم له شقة ليسكن فيها، أو تقدم له عملاً كأن تساعده في بناء منزل أو في صناعة طاولة وقد تكون الرشوة أحياناً قولاً كأن تمدح القاضي وتثني عليه من أجل أن تستميله إليك حتى يحكم لصالحك, فإن جميع هذه الصور تدخل في قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام).

ومن الضروري أن نذكر هنا أن قبح الرشوة قد يدفع بالراشي إلى أن يغطي رشوته بعناوين وأسماء أخرى فالشخص الذي يقدم رشوة لا يقدمها بعنوان أنها رشوة بل في كثير من الحالات يقدمها بعنوان هدية أو مساعدة أو ما أشبه ذلك، ولكن هذه العناوين والأسماء لا تغير من ماهية العمل شيئا فتقديم الرشوة حتى تحت هذه العناوين هو عمل محرم, والأموال التي يحصل عليها الإنسان عن هذا الطريق هي محرمة وغير مشروعة.

وهذا الأشعث بن قيس يتوسل بهذه الطريقة فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أمير المؤمنين (ع) أملاً في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه ويسمي ما قدمه للإمام هدية, فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً: أعن دين الله أتيتني لتخدعني، والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلبَ شعيرة ما فعلته, وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضُمها, ما لعليٍ ونعيمٍ يفنى ولذة لا تبقى.

فالإسلام أدان الرشوة بكل أشكالها وقد جاء في السيرة النبوية أن واحداً ممن ولاهم رسول الله (ص) قبلَ رشوة قدمت إليه بشكل هدية, فقال له رسول الله(ص): كيف تأخذ ما ليس لك بحق! قال: كانت هدية يا رسول الله, فقال له: أرأيت لو قصد أحدكم في داره ولم نوله عملاً أكان الناس يُهدونه شيئاً؟ .

إذن فإن الكثير من الناس يتقدمون إلى أصحاب المواقع والمسؤوليات برشوة على شكل هدية, وهنا لا بد أن يكون الحاكم والقاضي والمسؤول حذراً بأن يمتنعوا عن أخذ ذلك.

وعلى هذا الاساس فكما أن التحذير موجه إلى أولئك الذين يدفعون الرشوة هو موجه أيضاً إلى أولئك الذين يقبلون الرشوة, فيندفعون نحو تزييف الحق والحكم للراشي بالباطل.

وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: لعن الله الراشي والمرتشي والساعي بينهما.

فليس الراشي الذي يدفع الرشوة يرتكب حراماً بل إن المرتشي الذي يتقبل الرشوة يرتكب حراماً أيضاً, كما أن الذي يتوسط ويسعى في الرشوة بين الراشي والمرتشي هو الآخر يرتكب حراماً وهو ملعون. (إن الراشي والمرتشي معلونان).

والآية تؤكد أن الملكية لا تحقق عن طريق حكم القاضي المرتشي, فالأموال التي يحكم بها القاضي المرتشي هي أموال محرمة لا يجوز التصرف بها.

وكذلك الاموال التي يحكم بها القاضي عن طريق شهادة زور أو عن طريق يمين كاذب هي أموال محرمة, لا يجوز للمحكوم له أن يتصرف بها.

وأكثر من ذلك الحكم الظاهري الذي يصدره القاضي العادل لا يجعل الأموال المغصوبة حلالاً ما دام الطرفان المتنازعان يعلمان الحق, فلو حكم لك الحاكم العادل بمال أو بملك أو بأي شيء وأنت تعلم أن ما حكم به ليس من حقك بل هو من حق الطرف الآخر, فإنه لا يجوز لك أن تأخذ ذلك المال وتتصرف به, فإن أخذه والتصرف به يعتبر أكلاً لأموال الناس بالباطل والإثم حتى في هذه الصورة.

وقد أكد رسول الله (ص) أن حكمه هو أيضاً لا يجعل المال حلالاً ما دام الطرفان المختلفان يعلمان أن صاحب الحق هو غير الذي حكم النبي لصالحه بحسب الظاهر، بل لا بد أن يعاد المال إلى صاحب الحق, وحكم الحاكم في هذه الصورة لا يبرر لك أخذه والتصرف به، فإذا تصرفت به بغير حق فكأنك تأكل في بطنك ناراً !.

فقد ورد عن رسول الله (ص) انه قال: إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وإنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين