الحلقة 46

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولا تأكلوا أمواكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).

تتحدث هذه الآية عن مسألتين من مسائل التشريع الإسلامي التي يراد من خلالها تنظيم العلاقات المالية بين المسلمين.

المسألة الأولى: مسألة التصرف في أموال الناس بغير حق.

والمسألة الثانية: مسألة الرشوة في الحكم.

وسنتحدث في هذه الحلقة حول المسألة الأولى على أن نتحدث في الحلقة القادمة حول المسألة الثانية إن شاء الله.

في المسألة الاولى: الآية تنهى بشدة عن ارتكاب ذنب من أكبر الذنوب, وهو سلبُ أموال الآخرين، والحصول على المال عن طريق غير مشروع، وتحذرُ من أكل أموال الناس بالباطل، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.

والمقصود بالأكل: مطلقُ التصرف بأي وجه كان، سواء كان بصورة الأكل المتعارف أو بصورة اللبس أو بصورة السكن أو بصورة الأخذ باليد والاستيلاء والحجز أو بأي صورة أخرى.

والمقصود بالباطل: كل ما يقابل الحق، وكلُ الوسائل التي لا تستند إلى أساس شرعي، فكل ما ليس بحق، وكل وسيلة أو معاملة أو طريقة غير مشروعة وغير محللة أو طريقة تحصل من خلالها على المال من الباطل.

فقد ورد عن أئمة أهل البيت (ع) تفسيرُ الباطل، بالقمار والربا والغصب والغش والسرقة وحلف اليمين كذباً, من أجل الحصول على أموال الغير بدون حق، لأن كل هذه الوسائل هي وسائل غير مشروعة ومحرمة بنظر الإسلام.

بل لقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلين اختلفا على أرض, فأراد أحدهما أن يحلف كذباً على أن الأرض له من أجل أن يحصل على الأرض لنفسه, فنزلت الآية (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).

وعلى هذا الاساس يندرج تحت عنوان الباطل كل لون من ألوان الغصب والاعتداء على أموال الآخرين وكل وكل شكلٍ من أشكال الغش، ويندرج تحت هذا العنوان جميع المعاملات الربوية والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وكل معاملة تجارية ومالية محرمة بنظر الإسلام .

ومن هنا يكون معنى الآية لا يتصرف بعضكم في أموال بعض عن طريق الغصب والغش والربا والتجارات المحرمة والمعاملات الباطلة التي لم يشرعها الإسلام, ومعنى ذلك أن أي تصرفٍ في أموال الغير بدون حق وأي تصرفٍ في الأموال التي يحصل عليها الإنسان من خلال هذه الوسائل وهذه التجارات والمعاملات يعتبر أكلاً للمال بالباطل وأكلاً للمال الحرام.

وعلى هذا الاساس فالإنسان الذي يعتدي على أملاك الآخرين ويحتل بيتاً أو شقّة ويستولي على أرض الغير، ويضع يده عليها ويتصرف بها بدون إجازة أو مسوغ شرعي هو يأكل أموال الناس بالباطل.

الإنسان الذي يحتجز لديه أموال الآخرين أو ممتلكاتهم أو أشياءهم بغير مبرر من أجل ابتزاز الطرف الآخر هو يأكل أموال الناس بالباطل, الأشخاص الذين يتعاطون التجارات المحرمة المضرة بأبدان الناس وعقولهم كبيع الخمور واللحوم الميتة المذبوحة على غير الطريقة الشرعية, أو يتاجرون بالمخدرات والأفلام الخلاعية وغيرها من الادوات التي تفسد الناس, تفسد أخلاقهم وتخرب حياتهم, فإن أموال هؤلاء التي يحصلون عليها من خلال ذلك هي أموال حرام والتصرف فيها يعتبر أكلاً للمال بالباطل.

الأفرادُ الذين يضعون أموالهم في البنوك بقصد أن يحصلوا على فوائد ربوية أو يودعون أموالهم عند بعض المستثمرين من التجار ورجال الأعمال ليحصلوا على فائدة ربوية, أولئك الذين يقرضون الآخرين قرضاً من أجل كسب الفائدة, فيعطيه ألفا ليرجعه عليه ألفاً ومئتين بعد مدة هي فائدة ربوية, هؤلاء يأكلون تلك الأموال التي يحصلون عليها بالباطل.

وهكذا الأشخاص الذين يحصلون على المال من خلال اللعب بالقمار أو من خلال السرقة هؤلاء يأكلون المال الحرام.

وكذلك الإنسان الذي يغش الناس في المعاملة أو يتلاعب بالميزان فيعطي الناس أقل من حقهم هو يأكل جزءاً من مال الناس بالباطل.

بل قد ورد عن الإمام الصادق (ع): ان الإنسان المديون الذي يطلبه الناس بمبلغ معين ويكون عنده مال فيتصرف به وينفقه على نفسه ولا يفي به دينه هو بذلك يتصرف في أموال الناس بالباطل، لأنه يجوز أن تحتجز الدين عندك أو أن تتصرف به إذا حلَّ أجله وكنت قادراً على أن تفي به لصاحبه مهما كانت الظروف. فالتصرف بالدين في مثل هذه الصورة يعتبر تصرفاً بغير حق وأكلاً للمال بالباطل.

ومن المهم هنا أن نؤكد أن الآثار والنتائج التي تترتب على أكل أموال الناس بالباطل لا تقتصر على المسؤولية التي يتحملها الإنسان في الآخرة مما أعده الله من العقاب والعذاب في الآخرة، بل يمتد ذلك ليتحمل الإنسان مسؤولية عمله في الدنيا قبل الآخرة، فإن من آثار ونتائج أكل المال بالباطل في الدنيا:

أولاً: إنه لا يترتب أي إثرٍ شرعي قانوني على المال الذي يكتسبه الإنسان من الحرام، فلا يملك الإنسان المال إذا حصل عليه بالوسائل المحرمة والمعاملات والتجارات التي ذكرناها والتي لم يشرعها الإسلام, وبالتالي فلا يجوز له أن يتصرف بها باي وجه من وجوه التصرف.

وهذه قاعدة عامة في طريقة انتقال المال من شخص إلى شخص, فكل مال ينتقل إليك بسبب غير شرعي اي بالغصب والقمار والسرقة أو الربا أو المعاملة المحرمة أنت لا تملكه ولا يجوز لك التصرف به، لأن الإنسان لا يملك المال إلا إذا حصل عليه من طرق الحلال ومن خلال الطرق والوسائل التي شرعها الله وأحلها الله كالتجارة الحلال التي تكون عن تراض بين الناس، وقد جاء في بعض الأحاديث المروية (لا يحِلُ مالٌ إلا من حيث أحلَه الله).

وثانياً: إن الإنسان الذي أكل الحرام ويتصرف بالمال الحرام يسلبه الله بركة ماله فلا يستطيع أن ينتفع به في حياته, كما روي عن الإمام الصادق (ع): من كسب مالاً من غير حله سلَّط الله عليه البناء والطين والماء لتذهب بكل أمواله، كما أنه آكل الحرام تلعنه ملائكة السموات والارض, كما ورد عن رسول الله (ص): إذا وقعت اللقمة من حرام في جوف العبد لعنه كل ملك في السماوات والأرض.

كما ورد: أن من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولم تستجب له دعوة أربعين صباحاً، وكل لحم ينبته الحرام فالنار أولى به، وإن اللقمة الواحدة تنبت اللحم.

ومن هنا فإن على الإنسان أن يحذر حتى من اللقمة الواحدة التي تكون من الحرام، وأن لا يكون همه هو أن يحصل على المال بأية طريقة حلالاً كانت أو حراماً، من دون مبالاة، بل ان يسعى لاكتساب المال من خلال الوسائل والأسباب التي أحلها الله، فقد ورد في الحديث القدسي: من لم يبال من أي باب اكتسب الدينار والدرهم لم أبال يوم القيامة من أي أبواب النار أدخلته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين