الحلقة 45

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة في الآيتين مئة وواحد وخمسين ومئة واثنين وخمسين: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).

في هاتين الآيتين حديث عن نعمة إلهية كبرى أنعمها الله على الناس هي نعمة إرسال الرسول لدعوة الناس ليذكروا الله وليتوجهوا إليه بالشكر على هذه النعمة.

فالآية الأولى: تتحدث عن النعمة الإلهية التامة الشاملة التي تجسدت في هذا الرسول العظيم الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الناس من خلال ما يتلوه عليهم من آيات الله, ومن خلال تزكيته وتنميته لأرواحهم وضمائرهم وحياتهم, ومن خلال تعليم الناس الكتاب والحكمة وتعليمهم ما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدنيا والآخرة.

والآية الثانية: تدعو الناس إلى أمرين: أولاً: إلى أن يذكروا الله في وجدانهم وفي ألسنتهم وفي وعيهم لمسؤوليتهم في الحياة, من أجل أن يذكرهم الله بنعمه وعفوه وغفرانه. وثانياً: إلى أن يشكروا نعم الله عليهم ولا يكفرو بها ويجحدوها، لئلا يعاقبهم الله بإزالتها عنهم وحرمانهم منها.

وحديثنا هنا يتركز على الآية الثانية حتى نتعرف على قوله تعالى: فاذكروني أذكركم) وعلى المدلول الشامل لذكر الله, وعلى تفسير قوله تعالى: (واشكروا لي ولا تكفرون) ومعرفة المدلول الشامل لشكر الله.

أما قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) فإن للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الفقرة, وفي بيان كيفية ذكر الناس لله وذكر الله للناس، ونحن نشير هنا إلى أهم هذه الاقوال:

فقد قيل اذكروني بالطاعة كي أذكركم برحمتي, والشاهد على هذا  التفسير قوله تعال: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) من أطاع الله ورسوله فإن رحمة الله ستناله في الدنيا والآخرة.

وقيل: اذكروني بالدعاء كي أذكركم بالإجابة, ودليل ذلك قوله تعالى: (ادعوني استجب لكم) فإن من وقف بين يدي الله ليدعو الله ويتوسل إليه بالدعاء والطلب فإن الله يذكره بالإجابة إلى طلبه وباستجابة دعائه.

وقيل: اذكروني بالشكر لأذكركم بزيادة النعمة, كما في قوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) ومن المؤكد أن ذكر الله ليس بأن يحرك الإنسان لسانه بالتسبيح لله بقوله سبحان الله, وبالتكبير له بقوله الله أكبر, أو بالثناء عليه بقوله الحمد لله أو ما شاكل ذلك فقط، بل ذكر الله هو أن يتوجه الإنسان بكل وجوده وبكل أقواله وأفعاله وحركاته إلى الله عز وجل، ذلك التوجه الذي يصون الإنسان من الدنيا والمعصية ويدعوه إلى طاعة الله في كل شيء والاستقامة في خطه في كل موقف من مواقف حياته.

ذكر الله أن يشعر الإنسان بحضور الله وبرقابة الله وبوجود الله عندما يريد أن يقدم على أي عمل أو على أي سلوك على أي موقف في الحياة, فيكون الشعور العميق بحضور الله دافعاً للإنسان إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه ومانعا له عن الانسياق والانجرار وراء تيارات الضلال والانحراف, ولذلك فقد جاءت الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) وعن أئمة اهل البيت (ع) لتخرج ذكر الله عن مدلوله اللفظي إلى موقف عملي يتمثل بالانضباط العملي وبالاستقامة على خط الله في الحالات التي يتعرض فيها الإنسان لضغوط الانحراف والضلال والمعصية والخروج عن خط الله والخروج عن طاعته.

وهذا ما عبر عنه الحديث المروي عن رسول الله (ص) فقد ورد أن رسول الله خرج على أصحابه فقال: ارتعوا في رياض الجنة, أي اجلسوا في رياض الجنة قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر منزلة الله عنده, فإن الله ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى فإنه أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني, وقال تعالى: (فاذكروني أذكركم) بنعمتي, اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرضوان.

وجاء في حديث آخر عن رسول الله(ص) فيما أوصى به علياً (ع) أنه قال: ثلاثٌ لا تُطيقُها هذه الأمة: المواساة للاخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه وذكر الله على كل حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله وأكبر، ـ أي ذكر الله ـ إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله تعالى عنده وتركه. تفسير نور الثقلين: ج1ص140 عن الخصال.

إذن فالإنسان الذاكر لله هو الإنسان الذي إذا عرضت عليه المعصية خاف الله وتركها لأنه يشعر برقابة الله عليه ويشعر بأن الله حاضر وناظر وشاهد عليه.

ولعلنا نجد نماذج كثيرة من أولئك الذين عرضت عليهم المعصية لكنهم ذكروا الله فتركوها ولم يقدموا عليها.

ومما يروى في هذا المجال: أن ابن عمر لقي غلاماً يرعى غنماً، فسأله أن يبيعه رأساً منها، فقال الغلام: الأغنام ليست لي وصاحبها لم يأذن لي ببيع  شيء منها، فقال له ابن عمر: بعني راساً منها واحتفظ بالثمن لنفسك، وقل لصاحبها إن ذئباً قد اختطفه وأكله, فقال الراعي: فأين الله إذاً؟ أنا أستطيع أن أخفي ذلك عن صاحب الغنم لكن هل أستطيع أن أخفي ذلك عن الله, والله حاضر وشاهد على ما أقوم به.

فأين الله إذاً؟ وهنا ترك هذا الموقف من الراعي الذي عبر فيه عن خوفه من الله تأثيره لدى ابن عمر, فقصد صاحب الغلام واشتراه منه وأعتقه ثم اشترى قطيع الغنم منه ووهبه للغلام الراعي الذي أعتقه، وكان ابن عمر بعد هذه الحادثة يردد باستمرار كلمة هذا الراعي ويقول: فأين الله؟.

هذا نموذج من نماذج التطبيق العملي لذكر الله.

وليس معنى التاكيد على الجانب العملي لذكر الله عدم أهمية الذكر باللسان, فإن ذكر الله باللسان من خلال قولك سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا إله إلا الله هو امر مطلوب يدخل أيضاً في قوله تعالى (فاذكروني أذكركم) بل قد يكون ذكر الله باللسان مقدمة لذكر الله بالعمل وبالموقف وبالسلوك, لأن الاستمرار في ذكر آلاء الله ونعمه وعظمته باللسان يولد لدى الإنسان الشعور بحضور الله, ويخلق لدى الإنسان الإحساس بوجوده ورقابته على كل عمل يقوم به الإنسان, الأمر الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يندفع نحو طاعته وأن يبتعد عن معصيته, لأن الله حاضر يشاهد كل أعماله ومواقفه وحركاته.

والخلاصة: إن ذكر الله كما أنه مطلوب باللسان والكلمة هو مطلوب بالموقف العملي, وكما أنه مطلوب بالموقف العملي هو مطلوب بالكلمة واللسان.

وأما الشكر لله فهو الامر الثاني الذي يدعو الله الناس أن يتوجهوا به إليه (واشكروا لي ولا تفكرون) وليس المقصود هنا أيضاً الدعوة من أجل أن يتوجه الناس بكلمة الشكر الله بألسنتهم فقط بأن يقولوا الشكر لله، بل المقصود أيضاً الدعوة إلى أن يقف الناس موقف الشاكرين أمام الله, وذلك بأن يقوموا بعبادة الله وبالطاعة لله فيما أمر وفيما نهى, وأن يجتبنوا معصية الله والتمرد عليه.

وهذا ما نستفيده من الحديث المروي عن رسول الله (ص) كما رواه الإمام الباقر (ع) فقد قال: كان رسول الله (ص) عند عائشة فقام (ص) ليلة بالعبادة لله، فقالت له عائشة، يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال (ص): يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟

وروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: شكر النعمة اجتناب المحارم وتمام الشكر قول الرجل الحمد لله رب العالمين.

وروي عنه فيما رواه أبو جعفر عنه قال: قلت لابي عبد الله الصادق (ع): هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم، قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومالٍ, وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حقّ أدّاه.

فالشكرلله يكون بأداء ما عليك من حقوق، وأداء ما في مالك من حق شرعي.

وهكذا يلتقي الشكر في الكلمة وفي اللسان بالشكر في العمل والممارسة والعبادة، ليتأكد الأسلوب الإسلامي التربوي الذي لا يحول العلاقة بالله إلى مجرد كلماتٍ يقولها الإنسان وكفى, بل إلى كلمات تبعث نحو العمل وتتجسد في الموقف والممارسة والخطوات العملية في الحياة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين