الحلقة 39

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلُ أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

لقد كتب الله على بني إسرائيل التيه والضياع في صحراء سيناء أربعين سنة بسبب عنادهم وعصيانهم وتمردهم على الله، حيث كانوا يعانون من شدة حر الشمس في تلك الصحراء القالحة التي لا ظل فيها، فقد أرسل الله عليهم الغمام والسحاب ليظللهم من الشمس, وحيث إنهم كانوا يشكون من الجوع والحاجة إلى الطعام, فقد أنزل الله عليهم المن والسلوى لسد حاجاتهم من الطعام وهكذا فقد أنعم الله على بني إسرائيل وهم في الصحراء بنعمتين: بنعمة التظليل من الشمس، وبنعمة إنزال المن والسلوى.

وفي هذه الآية يذكرهم الله بنعمة ثالثة من نعمه عليهم وهم في تلك الصحراء القاحلة وهي نعمة الماء، فقد كان بنو إسرائيل بأمس الحاجة إلى الماء وهم في وسط تلك الصحراء القاحلة، فقد ضاق بهم العطش وتعرضوا للهلاك من شدة العطش, ولم يكن هناك أي أثر للمياه، فدعا موسى ربه، وطلب منه الماء لقومه, فاستجاب الله لطلبه وأمره أن يضرب الحجر بعصاه ليستخرج لهم الماء من الحجر بطريقة إعجازية خارجة عن المألوف، وبعد أن ضرب موسى الحجر بعصاه، فتدفقت منه اثنتا عشرة عيناً من العيون المائية بعدد قبائل بني إسرائيل آنذاك حيث كانوا اثنتي عشر قبيلة، وطبعاً الحكمة من إحداث اثنتي عشرة عيناً بعدد قبائلهم واسباطهم هي حتى لا يختلفوا أو يزدحموا على الماء، ولذلك فقد كان بإمكان كل قبيلة أن تتجه إلى العين المخصصة لها وترتوي من مائها من دون أي مشكلة.

تقول الآية: (وإذ استسقى موسى لقومه) أي واذكروا يا بني إسرائيل هذه النعمة إذ طلب موسى لكم الماء من أجل أن يسقيكم (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) أي بعدد قبائل بني إسرائيل (قد علم كل أناس مشربهم) أي لكل قبيلة عين مخصصة لها بحيث اتجهت كل قبيلة نحو العين الخاصة بها (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) وفي هذا المقطع من الآية يخاطب الله بني إسرائيل وينهاهم عن الفساد في الأرض، فإن عليهم أن يتركوا العناد وإيذاء الأنبياء وقتلهم، وسفك الدماء وارتكاب الجرائم والمجازر، وما إلى ذلك من الفساد في الارض وأن يكون ذلك أول شكرهم لله على هذه النعم التي أفاضها عليهم, هذا ما تشير إليه الآية بشكل عام, ولكننا نتوقف مع هذه الآية لتوضيح عدة أمور:

الأمر الأول: إنه تعددت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه عيون الماء، كما تعددت الأقوال في كيفية ضربه بالعصا.

بعض المفسرين قال: بأن هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء, وبعد أن ضربه موسى بعصاه جرت منه المياه بصورة قليلة أولاً، ثم بدأت تتدفق حتى ارتوت منها كلُ قبائل بني إسرائيل.

هناك أقوال تذكر: أن ذلك الحجر كان من نوع خاص حمله بنو إسرائيل معهم، ومتى ما كانوا يحتاجون إلى الماء كان موسى يضربه بعصاه فتجري منه المياه، ولكن ليس في القرآن ما يشير إلى ذلك, كما أنه ليس في القرآن ما يبين طبيعة هذا الحجر أو ما يبين كيف أن موسى ضربه بعصاه.

الأمر الثاني: إننا نلاحظ في هذه الآية أن الله عبر عن تدفق الماء من الحجر بالفعل (انفجر) حيث قال تعالى: (فانفجرت منه اثتا عشرة عيناً) بينما عبر عن ذلك في سورة الأعراف بالفعل (انبجس) يقول تعالى في الآية 16 من سورة الأعراف: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم).

والفرق بين الفعل انفجرت والفعل انبجست: ان فعل انفجرت يكشف عن شدة تدفق الماء من الحجر، بينما الفعل انبجست يكشف عن سيلان الماء بشكل هادئ.

ومن هنا فربما تكون سورة الأعراف تتحدث عن المرحلة الأولى من ظهور الماء من الحجر، حيث إنه في المرحلة الأولى جرى الماء منه بشكل هادئ لا يثير خوف بني إسرائيل، ولا يمنعهم من السيطرة عليه، بينما تشير هذه الآية التي نحن في صدد تفسيرها إلى المرحلة النهائية من تدفق الماء من الحجر حيث إنه في المرحلة النهائية اشتد جريان الماء منه.

الامر الثالث: إن هذه الآية وآيات أخرى تفيد أن أنبياء الله وأوليائه يستطيعون بإذن الله وبأمره ـ إذا اقتضى الأمر ـ أن يتدخلوا في عالم الخلق والتكوين، وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً للقوانين الطبيعية, وأن يصنعوا ما هو خارج عن المألوف, فإن الظاهر من هذه الآية وغيرها أن موسى (ع) هو الذي ضرب بعصاه الحجر فأحدث فيه اثنتا عشرة عيناً تدفقت منها المياه، وهذا الفعل هو أعماله التي تسند إليه، مما يدل على أن الأنبياء كانوا يتصرفون بعالم التكوين ويقومون بتلك الأفعال الخارجة عن المألوف والعادة.

ولكن لكي لا يتصور أحد أن الانبياء والأولياء كان لهم استقلال في مثل هذه الأعمال وأن لديهم قدرة ذاتية على التصرف في مثل هذه الأمور في مقابل قدرة الله، لذلك وقف موسى كما تفيد الآية ليطلب من الله الماء فأمره الله وأذن له أن يقوم بذلك العمل الذي استطاع من خلاله بقدرة الله ان يستخرج الماء من الحجر وأن يسقي قومه من بني إسرائيل من العيون التي انفجرت منه.

وهذه هو معنى الولاية التكوينية الثابتة للانبياء وللأئمة (ع)، فإن الولاية التكوينية الثابتة لهم ليست هي إلا القول: بأن الأنبياء والأئمة يستطيعون إذا لزم الأمر أن يتصرفوا في عالم الخلق والتكوين بإذن الله وبأمر الله وبقدرة الله، وليس بقدرة ذاتية مستقلة عن قدرة الله وإرادته، فليس هناك أحد يقول بأن الأنبياء والأئمة لديهم جهاز للخلق مستقل في مقابل الله، إنما هم يفعلون مثل هذه الأمور الخارقة للعادة والخارجة على القوانين بإذن الله وبأمر منه عز وجل، وهكذا فإن ما نستنتجه من هذه الآية هو أن المعجرة من عمل الأنبياء لأنهم هم الذين يقومون بها كما هي من عمل الله لأنها تتم بإذنه وبأمر منه وبالاستعانة بقدرته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين