الحلقة 36

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) البقرة 55/56.

الآية الأولى تشير إلى موقف آخر من مواقف بني إسرائيل السيئة، وتكشف عن طبيعة التمرد والعناد لديهم التي كانوا يتميزون بها باستمرار.

فالدلائل والبينات والمعجزات التي ظهرت على يدي موسى (ع) والتي شاهدوها وأدركوها، لم تكف في إقناعهم بنبوة موسى ورسالته حسب وجهة نظرهم, والنِعم الكبيرة التي أفاضها الله عليهم والتي كان أبرزها نعمة نجاتهم وخلاصهم من المأزق والازمات والعذاب الذي كانوا يعيشونه في ظل حكم الفراعنة لم تقنعهم أيضاً بعظمة الله ولطفه وفضله ورحمته, فأعلنوا موقفهم المتمرد على الله الذي يهدف إلى العناد والتحدي ولا يهدف إلى الإيمان والبحث عن الحقيقة، وقالوا لموسى: (لئن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) أي لن نصدقك ولن نعترف بنبوتك ورسالتك وبالكتاب الذي أُنزل عليك حتى نرى الله علانية وعياناً لا حجاب بيننا وبينه, ويخبرنا وجهاً لوجه أنه هو الذي أرسلك بهذا الكتاب.

فهم يطلبون من نبيهم بصراحة ووقاحة أن يروا الله جهرة، ويجعلون ذلك شرطاً لإيمانهم, فإن تحقق طلبهم آمنوا به وبرسالته وبكتابه، وإلا فلن يؤمنوا بذلك.

هذا الطلب يكشف عن قلة إدراك بني إسرائيل وقلة وعيهم وعن مدى جهلهم لأن الإنسان الجاهل هو الذي لا يتعدى إدراكه حواسه، ولذلك فهو يطلب أن يرى الله بعينه وأن يدركه ببصره لأنه بفعل جهله لا يملك القدرة على وعي وفهم الحقائق غير المادية التي لا تُدرك بالحواس.

والظاهر أن هذا الموقف وهذا الطلب وهذا القول صدر منهم عندما كان موسى في الميقات يناجي ربه، حيث كان معه جماعة من بني إسرائيل في الميقات نفسه, كما أخبرنا الله بذلك في آية أخرى: (واختار موسى قومه ـ أي من قومه ـ سبعين رجلاً لميقاتنا) الأعراف/155. أي للموعد الذي جعله لموسى لمناجاته وإنزال التوراة عليه.

ويبدو أن هؤلاء السبعين وفي مكان الميعاد والميقات, أي في جبل الطور الأيمن هم الذين قالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وكان ذلك بعد أن كلَّم الله موسى، فالظاهر أنهم لم يؤمنوا أن الله هو الذي يكلم موسى فتمردوا وعصوا وقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).

بل في الحديث عن الإمام الرضا (ع): "إن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأن الله أرسلك وكلمك حتى نسمع كلام الله تعالى، فاختار منهم سبعين رجلاً, فلما سمعوا كلام الله قالوا لن نؤمن بأنه كلام الله حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا) عيون أخبار الرضا.

وعلى أي حال: فإن بني إسرائيل بعدما طلبوا أن يروا الله علانية بأبصارهم إصراراً منهم في التحدي والعناد، عندئذٍ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه وفعله لا يطيقون رؤيتها, ليفهموا أن عيونهم لا تستطيع رؤية كثير من مخلوقات الله فكيف تستطيع رؤية الله سبحانه وتعالى، فنزلت الصاعقة, وهي النار المحرقة على الجبل الذي كانوا فيه, وصحبها برق شديد ورعد وزلزال فماتوا جميعاً، وهم ينظرون إلى الصاعقة تنزل عليهم (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون).

وهنا اغتم موسى لما حدث بشدة لأنه خشي أن يتهم بقتلهم فيضيف إلى مشاكله مع قومه مشكلة جديدة, لأن هلاك سبعين شخصاً من كبار بني إسرائيل قد يعطي فرصة للمغامرين من أبناء القوم الذين قتلوا بالصاعقة قد يعطيهم فرصة أن يثيروا ضجة بوجه النبي موسى، لذلك تضرع موسى إلى الله أن يعيدهم إلى الحياة فاستجاب الله لطلبه وأعادهم إلى الحياة حيث أحياهم بعد موتهم تقول الآية الثانية: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون).

وهذه نعمة أخرى تضاف إلى النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل, وهي نعمة إحيائهم بعد موتهم بالصاعقة، ونعمة إرجاعهم إلى الحياة، وهذه النعمة لا بد أن يشكروا الله عليها شكراً عملياً بأن يطيعوه وأن يلتزموا خطه، ويستجيبوا لدعوة نبيه ويلتزموا شريعته ورسالته، ولكنهم كالعادة واجهوا هذه النعمة كغيرها من النِعم بالكفران والعناد والجحود.

إن ما نستفيده من هاتين الآيتين عدة أمور:

الأول: إن الله لا يمكن رؤيته بالبصر, لأن الله ليس جسماً مركباً من أعضاء حتى نستطيع أن نراه بالعين كما نرى سائر الأجسام، ولذلك فإن الله تستحيل رؤيته في عالم الدنيا وفي عالم الآخرة.

الثاني: إن نزول الصاعقة والعذاب على أولئك الذين طلبوا رؤية الله جهرة من بني إسرائيل يوحي ويشير إلى النهي عن البحث والتعمق في ذات الله عز وجل, بل قد يوحي بأن الإنسان الذي يبحث في ذات الله ومعرفة كنه الله يستحق العقاب على هذا العمل، وقد وردت عن الأئمة (ع) في النهي عن التعمق في ذات الله أحاديث كثيرة.

فعن الباقر (ع): "تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله, فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً.

وعن الصادق (ع): "إن الله تبارك وتعالى يقول: (وإن إلى ربك المنتهى) فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فامسكوا أي كفوا عن الكلام.

الأمر الثالث: إن الآية الثانية تشير ضمناً إلى إمكانية الرجعة, أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت، والقول بالرجعة من الأقوال الثابتة في مذهبنا, وهي تعني أن الله تعالى يعيد بعض المؤمنين الذين أخلصوا في الإيمان كما يعيد بعض الكافرين الذين استغرقوا في الكفر يعيدهم إلى الدنيا بعد موتهم قبل القيامة، من أجل أن يأخذ المؤمنون حقهم من الكافرين والظالمين في الدنيا قبل الآخرة. وإمكانية هذه الرجعة مما تدل عليه الآية الثانية, حيث إن الله أعاد إلى الحياة أولئك الأشخاص من بني إسرائيل بعد موتهم بالصاعقة، فإن وقوع الرجعة في التاريخ مع هؤلاء يدل على إمكانية وقوعها في المستقبل من أجل تحقيق الهدف المذكور.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين