الحلقة 34

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً، ثم اتخذتُم العِجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون).

يدور الحديث في هاتين الآيتين حول مقطعٍ آخر من تاريخ بني إسرائيل، وحول موقفٍ آخر من مواقفهم السيئة والمنحرفة، وبالتحديد حول أكبر انحرافٍ أُصيبوا به في تاريخيهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأِ التوحيد وعن خط الرسالة الإلهية، والاتجاه نحو عبادة الصنم وعبادة العجل.

والهدف من إثارة الحديث في هاتين الآيتين حول هذا الموقف المنحرف من مواقفهم هو تذكيرُهم بما أصابهم كيهود من انحراف في الماضي نتيجة إغواء الضالين لهم، وتحذيرُهم من تكرار هذه التجربة في مواجهة الإسلام خاتمِ الديانات الإلهية.

وقد شرح القرآن هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل بالتفصيل في بعض آيات سورتي الأعراف وطه، وأشار إليه في هاتين الآيتين من سورة البقرة.

وخلاصة ما يستفاد من القرآن الكريم حول هذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل، وبالتحديد حول إنحرافهم عن خط التوحيد والتوجه نحو عباة العجل، الذي هو موردُ الحديث في هاتين الآيتين: هو أنه بعد أن أنقذ الله بني إسرائيل من ظلم الفراعنة وأهلك فرعون ومن كان معه، تنفس الإسرائيليون الصعداء، وعادوا إلى مصر آمنين مطمئنين, ولم تكن التوراة قد نزلت بعد على موسى، فسألوه وطلبوا منه أن يأتيهم بكتابٍ من عند الله، فوعده الله أن يُنزِّل عليه التوراة، وجعل له موعداً وميقاتاً محدداً، وفي الموعد استدعى الله موسى وأمره أن يقصد مكان الميعاد, وهو الجانب الأيمن من طور سيناء لينزِّل عليه التوراة في مدى أربعين ليلة، هي شهرُ ذي القعدة والعشرةُ الأولى من شهر ذي الحجة، كما ورد في بعض النصوص.

وكان المطلوب أن ينقطع موسى عن الجميع خلال هذه المدة ليتوجه إلى الله وحده وليتفرغ لمناجاته، وليستعد من خلال ذلك لتلقي المعارف الإلهية والتوراة.

وكان موسى قبل أن يتوجه إلى مناجاة ربه، كان قد أخبر بني إسرائيل بأنه سينقطع عنهم طيلة هذه المدة ـ مدة الأربعين ليلة ـ ليأتي لهم بالكتاب من عند الله, كما أنه كان قد جعل أخاه هارون خليفةً عليهم ليرعى شؤونهم ويُصلح أمرهم في غيابه.

وذهب موسى ليأتي قومه بالكتاب وهنا كانت المفاجأة: فلم يغب عنهم موسى، حتى نسي بنو إسرائيل الرسالة والرسول والكتاب ونسوا الله سبحانه وانحرفوا عن خط التوحيد واتجهوا نحو عبادة العجل.

وكان الذي أضلّهم وأقنعهم بعبادة العجل، رجلٌ ماكرٌ دجال من بني إسرائيل سماه القرآن (السامري) حيث إن هذا الرجل استغل فرصة غياب موسى لمناجاة ربه، فجمع ما كان لدى بني إسرائيل من ذهبٍ ومجوهراتٍ كانوا قد غنموها من الفراعنة بعد هلاكهم، وصنع منها صنماً على هيئةِ عجلِ البقر، وجعله بطريقة هندسيةٍ خاصة تجعلُ الريح إذا دخلته تعطي صوتاً خاصاً من فمه كصوت البقر, وبعد أن أكمل صُنعه جاء به الى بني إسرائيل وقال لهم: هذا إلهكم وآله موسى، وقد نسيهُ هنا وذهب لملاقاته في هذه الغيبة الطويلة، ثم دعاهم لعبادته، فاستجاب له أكثرُ بني إسرائيل، وبقي هارونُ أخو موسى وخليفته مع أقلية من القوم على دين التوحيد وعلى خط رسالة موسى، وقد حاول هؤلاء الموحدون الوقوف بوجه هذا الانحراف إلا أنهم لم يفلحوا.

بعد أن عاد موسى من مناجاةِ ربه تألم كثيراً لما رأه من قومه, وغضبَ غضباً شديداً عليهم ووبخهم على هذا الموقف الذي ظلموا أنفسهم به، فرجعوا إلى ربهم وعفى الله عنهم. هذه خلاصة ما تشيرُ إليه الآيتين اللتين قراناهما من سورة البقرة.

تقول الآية الأولى، في إشارة إلى ميعاد موسى مع ربه: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً). وإذ واعدنا موسى يعني: جعلنا له موعداً محدداً، وهو أربعون ليلة للمناجاة من أجل ان ننزل عليه التورا، وإنما قال تعالى: (أربعين ليلة) ولم يقل أربعين يوماً، لأن المقصود من هذا الميعاد هو المناجاة, ولعل أفضل المناجاة مع الله وأولاها هي المناجاة في الليالي وليس في الأيام أو في النهار.

وأما كون الميعاد أربعين على وجه التحديد وليس أكثر أو اقل، فربما يكون لأجل أن الإخلاص لله والمناجاة مع الله في هذا المقدار من الزمان بشكل متوال ومتتابع له خصوصية وله موضوعية خاصة، ولهذا فقد ورد عن النبي (ص): (من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وأُنطِق بها لسانه).

وتضيف الآية في إشارة إلى انحراف بني إسرائيل وعبادتهم العجل، (ثم اتخذتم العجل من بعده) اي بعد غياب موسى عنكم وذهابه لمناجاة ربه وأخذ التوراة (وأنتم ظالمون) ظالمون لأنفسكم في هذا الموقف المنحرف, لأن عبادتكم للعجل شرك بالله, والشرك ظلمُ عظيم.

ونشير هنا إلى أن العجل الذي عبده بنو إسرائيل ليس عجلاً حقيقياً من لحم ودم، وإنما هو صنمٌ مصنوعٌ من الذهب والمجوهرات على هيئة عجل البقر كما قلنا، وإنما عبّر الله عن الصنم بالعجل في الآية، اما لعجلة السامري في اتخاذ هذا الصنم معبوداً, واما لعجلة موسى في تدميره وإفنائه دفعاً للانحراف والفساد.

وتقول الآية الثانية: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون). هذا العفو بحد ذاته هو نعمةٌ أخرى من النعم التي منَّ بها الله على بني إسرائيل، فالله سبحانه لم يعاملهم بظلمهم ولم يحاسبهم على عبادتهم بعد أن تابوا ورجعوا إلى الله وأدركوا خطأهم, بل عفى عنهم ليفسح لهم المجال من أجل يصححوا أفكارهم وخطهم ومسيرتهم, ومن أجل أن يهيئ لهم الجو الروحي والنفسي الذي يعينُهم على الرجوع إلى الله والتوجه إليه بالشكر العملي على نعمه.

فالله عزوجل أنعم عليهم بنعمةِ العفو من أجل أن يشكروا الله فيتبعون خطّه ويطيعونه في كل شيء، ولكن هذا لم يحصل من بني إسرائيل, فإنهم بدل أن بواجهوا نعم الله وكرم الله بالشكر العملي، واجهوا ذلك بالكفران والجحود للنعمة، فاستغرقوا في ضلالهم وانحرافهم وخياناتهم لأنبياء الله ورسله, كما سيتضح من سائر الآيات الواردة بحقهم.

إن المستفاد من القرآن أن بني إسرائيل في عهد النبي موسى (ع) كفروا بالنعم ولم يشكروها مع أنهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتى بها موسى، ومع أنهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصهم الله بها، فإنه لم ينقضِ على هلاك عدوهم اللدود فرعون ونجاتهم وتحريرهم من ظلم فرعون وإرهابه، لم ينقضِ على ذلك إلا زمن قصير حتى نسي بنو إسرائيل كل هذه الأمور دفعةً واحدة, وطلبوا من موسى في البداية أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها ثم عبدوا العجل وارتكبوا بذلك أكبر خيانةٍ بحق الدين والرسالة الإلهية بمجرد أن غاب موسى عنهم فترة وجيزة.

نقرأ في نهج البلاغة أن أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين (ع) قائلاً: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه، فرد عليه الإمام قائلاً: إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال لكم: إنكم قوم تجهلون.

أي إننا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبينا لا أننا اختلفنا حول النبي ونبوته، ولكنكم أنتم انحرفتم وذهب بكم الانحراف إلى حد الخروج عن عبادة الله ومبدأ التوحيد بمجرد أن غاب نبيكم عنكم فترة قصيرة.

إن الذي نستوحيه من كل هذاا الجو: أن اليهود قد يعطون موقفاً والتزاماً أو عهداً في قضية رسالية أو سياسية أو غيرها, من موقع حاجتهم إلى التخلص من واقع ضاغط أو لان مصلحتهم تفرض عليهم ذلك في مرحلة معينة, ولكنهم بمجرد أن يصلوا إلى أهدافهم ومصالحهم, وعند أول فرصة يستطيعون من خلالها التفلت من التزاماتهم يتخلون عن كل شيء تماماً كما فعلوا مع موسى (ع) فإنهم ساروا معه والتزموا برسالته لأنهم كانوا بحاجة أن يتخلصوا من ظلم فرعون ولم يلتزموا برسالته التزاماً حقيقياً مبنياً على أساس القناعة والإيمان، ولذلك فإنهم بمجرد أن تحرروا من الفراعنة وحصلوا على النجاة، وبمجرد أن غاب عنهم موسى خانوا التزامهم معه وانحرفوا وعبدوا العجل كما ذكرنا.

إن هذا الموقف يدل على أن اليهود لا يراعون عهداً ولا التزاماً ولا ميثاقاً وأن الخيانة للعهود والالتزامات التي يعطونها للآخرين وأن الخيانة للدين وللأنبياء وللإنسانية هي جزء من طبيعتهم وعقليتهم وذهنيتهم المنحرفة، وجزء من حركة حياتهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين