الحلقة 33

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يُذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).(وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون).

في هاتين الآيتين إشارة إلى واحدة من النعم الكبيرة التي أنعمها الله على بني إسرائيل وهي: نعمةُ نجاتهم من ظلمِ فرعون وأتباعه الذين أذاقوا اليهود أشد أنواع الاضطهاد والعذاب.

ففي الآية الآية الأولى: يشير القرآن إلى بعض ألوان العذاب الذي مارسه آلُ فرعون في حق بني إسرائيل، وكيف أن الله أنجاهم من ظلم الفراعنة وسلطتهم، فيقول مخاطباً اليهود (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يُذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).

وفي الآية الثانية يوضح القرآن الطريقة التي أنجى الله من خلالها بني إسرائيل, وذلك من خلال المعجزة التي صنعها على يدي موسى (ع) بشق البحر وإغراق آل فرعون فيه وإنقاذ بني إسرائيل من طغيان الفراعنة. فيقول مخاطباً اليهود أيضاً: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون).

ولكي يتضح لنا معنى هاتين الآيتين بصورة جيدة، لا بد من عرض الأحداث التي تشيران إليها بشكل متسلسل، والاستفادة من سائر الآيات القرآنية التي تحدثت عن تاريخ بني إسرائيل.

الذي يتبين من سورة يوسف أن بني إسرائيل وهم ذرية يعقوب وأبناؤُه ونسلُه هاجروا من فلسطين إلى مصر، وكان أول من دخل مصر من بني إسرائيل هو النبي يوسف ويعقوب، ثم انضم إليه أخوتُه وعشيرته، حيث سكنوا فيها من ذلك الحين بعد أن أعطاهم فرعون أرضاً خصبةً إكراماً لوزيره يوسف، وبقيوا هناك مدة طويلة، فتكاثر نسلُهم وازداد عددهم سنةً بعد سنة.

وكان الإسرائيليون طيلة هذه الفترة يعيشون في عُزلةٍ تامة عن المصريين. وهم الأقباط, ولا يختلطون معهم، ولذلك لم يتعرض لهم المصريون بسوء، طيلة هذه المدة حتى ازداد عددهم وكثرت أموالهم فأصبحوا مصدر قلقٍ لفراعنة مصر, واشتد هذا القلق في عهد الفرعون رمسيس الثاني حوالي سنة 1250 قبل الميلاد الذي كان يعد من أقدر الفراعنة، فأظهر هذا الرجل العداء لبني إسرائيل، ولعله في أيامه بدأ أتباعه باضطهاد بني إسرائيل واستعبادهم واستضعافهم، حيث أذاقوهم أشدّ أنواع العذاب، وارتكبوا بحقهم أعظم الجرائم. وقد أشارت الآية الأولى إلى أن أبرز هذه الجرائم وهي إبادةُ رجالهم وذبحُ أبناءهم وإبقاء نساءهم على قيد الحياة ليتخذوهن خدماً وإماءاً يخدُمن في البيوت عند فرعون وقومه.

وقد اختلفت النصوص التي تحدثت عن سبب إقدام فرعون على ممارسة هذا النوع من الجرائم بحق بني إسرائيل, فبعض النصوص تقول: إنَّ فرعون رأى في منامه أن شُعلةً من النار توهجت من جهة بيت المقدس في فلسطين وأحرقت جميع بيوت المصريين الأقباط في مصر، إلا أنها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بأي سوء، فأزعجته هذه الرؤية، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل وتفسير هذا المنام، فأخبروه بأن زوال ملكه سيكون على يد مولود من بني إسرائيل، فكان هذا الأمر سبباً في أن يتخذ فرعونُ قراراً بقتل وذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل وإبقاء الإناث على قيد الحياة، وذلك ليعطل مفعول المنام، وربما كانت قصة موسى وإلقاءُ أُمِه في البحر خوفاً عليه من القتل دليلاً على صدق بعض تفاصيل هذه القصة.

ولكننا نحن لا نستغرب أن يكون السبب والدافع لفرعون على ممارسة جريمة قتل الأبناء من بني إسرائيل شيئاً آخر أيضاً بالإضافة إلى ما ذكر، وهو أن الفراعنة كانت لديهم خطة أساساً لإضعاف بني إسرائيل وتقليص عددهم خوفاً من أن يتحولوا إلى قوة تشكلُ خطراً على سلطة الفراعنة، أو تقفُ إلى جانب أعدائهم، خاصة بعد ان ازداد عددهم وكثرت أموالهم، والدليل على ذلك: أن قرار قتلِ الأبناء وإبقاء النساء أحياءاً كان لا يزال ساري المفعول حتى بعد ظهور موسى (ع) ومجيئه إلى الفراعنة كما في الآية التالية من سورة غافر: (فلما جاءهم ـ أي موسى ـ بالحق من عندنا قالوا: ـ أي الفراعنة ـ اقتُلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيدُ الكافرين إلا في ضلال) ـ 25. فإن هذه الآية تدل على أن الفراعنة كانوا ماضين في قتل الابناء وإبقاء النساء أحياءاً حتى بعد أن جاءهم موسى يدعوهم إلى الحق، مما يعني بأنه كان لدى الفراعنة مشروعٌ لإضعاف بني إسرائيل وإبادتهم، وليس لديهم مجردُ إجراء وقائي للقضاء على المولود الذي سيهدد ملك الفراعنة ووجودَهم.

وعلى كل حال ومهما كان السبب في ذلك, فإن المعروف أن النبي موسى (ع) ولد في هذا العهد الذي كان يمارس فيه الفراعنة هذه الجرائم بحق بني إسرائيل, ولكن الله تعالى أنجاه من القتل، وبعد أن شبَ بعثه الله نبياً في بني إسرائيل وذهب إلى فرعون وقومه ودعاهم إلى الإيمان برسالة الله، والتخلي عن استعباد الإسرائيليين وإطلاق سراحهم لعودتهم إلى فلسطين, إلا أن فرعون أبى أن يستجيب لدعوة الإيمان، كما أبى أن يحرر الإسرائيليين ويسمح لهم بالخروج من مصر, بل إنه زاد من التنكيل بهم والتضييق عليهم, وبعدما لم تنفع الوسائل الطبيعية التي حاول من خلالها موسى إقناع فرعون بالسماح لبني إسرائيل بالخروج معه, خرج موسى (ع) بقومه من بني إسرائيل سراً من أرض مصر قاصداً فلسطين ليلاً, ولما عرَف فرعون بذلك لحقهم بجنوده ليمنعهم من الخروج.

وصل بنو إسرائيل إلى ساحل البحر الأحمر على خليج السويس وأدركهم فرعونُ وجنوُده هناك مع شروق الشمس، وقد استولى الخوف على بني إسرائيل وقالوا لموسى: لقد لحِق بنا فرعون ولا طاقة لنا على مواجهته, فماذا نفعل والبحر أمامنا؟؟ فقال لهم موسى: لا تخافوا أن الله معنا وسيرشِدنا إلى طريق النجاة، وفي هذه الأثناء أوحى الله لموسى بأن يضرب البحر بعصاه ففعل، فانشق الماء في البحر وصار فيه اثنا عشر طريقاً جافاً يابساً على عدد أسباط وعشائر بني إسرائيل آنذاك, فعبَر موسى وبنوا إسرائيل من خلاال هذه الطرق إلى الجانب الآخر من البحر، وهنا أراد فرعون أن يلحقهم في نفس الطريق اليابس الممتد أمامه, فنزل هو وجنوده وأتباعُه فانطبق الماء عليهم وغمرهم وأغرقهم جميعاً، وأنجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل وهم ينظرون إلى فرعون وجنوده كيف يغرقون، وشاهدوا بأمِّ أعينهم كيف أن الله أذلّ فرعون وجنوده بإغراقهم في البحر، وكيف أن الله أعزهم وأنعم عليهم بنعمة النجاة والخلاص من فرعون, لأنهم استجابوا لدعوة النبي موسى(ع) وانطلقوا في طريق رسالته وشريعته.

هذا هو ما تشير إليه الآيتان اللتان قرأناهما في بداية الحديث، تقول الآية الأولى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) أي من أتباعه وجنوده الذين كانوا يباشرون التنكيل بكم والتعذيب بكم والتضييق عليكم بأمر من فرعون، وكلمة فرعون هي: لقب كان يطلقُ على كل ملك من ملوك مصر في تلك المرحلة, وهو مثل لقب (الباب العالي) الذي كان يطلقُ على كل سلطان من سلاطين الدولة العثمانية.

(وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) أي يذيقونكم أشد العذاب وأسوأه. ونلاحظ هنا أن القرآن يعبر عن العذاب بصيغة فعل المضارع (يسومونكم)الذي يدل على دوام الحدث واستمراره في مرحلته، وذلك من أجل الإشارة إلى أن هذا العذاب كان مستمراً في بني إسرائيل في تلك المرحلة، وإلى أنهم في عهد فرعون كانوا دوماً تحت التعذيب والتنكيل والاستعباد.

وقد بين الله بعض أنواع العذاب الذي كان يناله اليهود من الفراعنة بجملة: (يُذبِّحون أبناءكم) أي يقتلون أولادكم الذكور (ويستحيون نساءكم) وكلمة يستحيون من الحياة, أي يتركون نساءكم أحياءاً فلا يقتلوهنَّ, وذلك من أجل أن يخدمن في البيوت، أو من أجل الاستمتاع الجنسي بهن, أو من أجل كلا الأمرين معاً.

ومن الملفت للنظر هنا أن القرآن يسمي ذبح الأبناء عذاباً كما يسمي استحياء النساء عذاباً أيضاً، أما كون ذبح الأبناء عذاباً فواضح, لأنه ليس هناك أشدُ عذاباً من أن يُقتل الإنسان ذبحاً كما تُذبح الخِراف, وأما وجه كون استحياءِ النساءِ عذاباً، فلإن استحياء النساء كما قلنا يعني تركهن وإبقائهن على قيد الحياة ليتخذوهن خدماً وإماءاً وسلعةً للاستمتاع، فالقرآن يشير إلى أن مثل هذه الحياة المذلة التي يعيش فيها الذل والهوان والقهر هي عذابٌ أيضاً مثلُ عذاب القتل والذبح.

ثم تقول الآية: (وفي ذلكم بلاء من ربك عظيم) وفي ذلكم: أي في ما كان ينزل بكم من العذاب من جهة, وفي نجاتكم وتحريركم من آل فرعون وظلمهم من جهة أخرى، في ذلكم كله بلاء واختبار وامتحان عظيم لكم من الله سبحانه، فإن الله اختبركم يا بني إسرائيل في الشدة وفي الرخاء وفي السراء والضراء، من أجل أن تُعرَفوا, هل تجاهدون وتصبِرون في الجهاد أيام الشدة والعذاب, أو أنكم تخضعون وتستسلمون؟ وهل تشكرون الله بالطاعة له والاستجابة لأوامره بعد ان أنجاكم من العذاب وجعلكم في حالةِ رخاءٍ وراحة, أم أنكم تكفرون في الرخاء كما شأن كلُ جبانٍ لئيم؟.

ثم تقول الآية الثانية: (وإذ فَرقنا بكم البحر) أي اذكروا يا بني إسرائيل حينما فصلنا البحر وشققناه وجعلنا فيه طرقاً يابسة وجافة تعبرون منها إلى الجانب الآخر للخلاص من عذاب فرعون وظلمه، (فأنجيناكم واغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون) وتشاهدون إغراقهم وإذلال الله لهم.

إن الله يُذكِّر بني إسرائيل بهذا الحدث التاريخي الكبير الذي أنعم الله من خلاله عليهم بنعمة النجاة والخلاص والتحرر من كيد الظالمين وعذابهم، إن الله يذكرهم بذلك من أجل أن يشكروا الله على هذه النعمة الكبيرة, وذلك بأن يطيعوا الله, وأن يسيروا في خط الرسالة الإلهية التي تتمثل في الإسلام الذي أنزله الله على خاتمِ الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله(ص).

والله يريد من خلال تذكيرهم بذلك أيضاً، أن يتعظوا ويعتبروا كيف أنهم كانوا في غاية الضعف والذل فصاروا بفضل الله ونعمهِ هم الأعزاء وصار أعداءهم هم الأذلاء. عليهم أن يتعظوا ويعتبروا من هذا الحدث الكبير, فلا يعاملوا غيرهم كما كان يعاملهم الغير، فهل أنهم اعتبروا؟ واليهود اليوم لم يعتبروا من تلك النعمة, فهم يعاملون العرب والمسلمين بما كان يعاملهم الفراعنة به من قبل, فهم يمارسون القتل والإرهاب والتنكيل والتعذيب بحق أهلنا في فلسطين ولبنان, وستنعكس الآية إن شاء الله, وستدور الدائرة على اليهود كما دارت على فرعون وأتباعه, وسيتحقق قطعاً وجزماً وعد الله بزوالهم وزوال كل الطغاة والمستكبرين على أيدي الشهداء والمجاهدين إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين