مقال لجريدة العهد بمناسبة ذكرى المولد النبوي بعنوان : ولادة النبي (ص) وعوامل انتصاره

 بسم الله الرحمن الرحيم يعود نسب النبي (ص) إلى هاشم بن عبد مناف الذي تنتسب إليه اشرف أسرة في مكة هي اسرة بني هاشم. فهو ابو القاسم محمد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المنحدر من ذرية إسماعيل بن إبراهيم (ع).

       ولدته امه آمنة بنت وهب في مكة المكرمة في منزل أبيه عبد الله بن عبد المطلب في شعب أبي طالب يوم الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول في عام الفيل الموافق لسنة 571 للميلاد.

       وقد كانت ولادته (ص) في مجتمع كان يعيش جوا قبليا معقدا ومشرذما توافرت فيه كل انواع الضلال والفساد والانحطاط والبعد عن القيم والاخلاق.

       وسوف نستعرض في حديثنا هنا الظروف والأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والاخلاقية التي كانت سائدة في منطقة شبه الجزيرة العربية في العصر الذي ولد فيه (ص).

       فعلى المستوى الديني كانت الوثنية هي الديانة الكبرى في شبه الجزيرة العربية، وكان الشرك والسجود للاصنام متفشيا بين سكان هذه المنطقة.

       ويكفي أن نذكر أن عبادتهم كانت ملونة باللون القبلي فلكل قبيلة، بل لكل بيت احيانا وثن وطريقة في العبادة، وبالرغم من أن الكثيرين منهم كانوا يعتقدون بوجود الله وخالقيته، إلا انهم كانوا يعتبرون أن عبادتهم للاصنام تقربهم إلى الله زلفى، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر /3.

أضف إلى ذلك أنهم ما كانوا يعتقدون بالمعاد والحياة بعد الموت، وقد اشار القرآن إلى ذلك في كثير من الآيات.

       هذه حال الوثنية، أما اليهودية والنصرانية، فلم تستطيعا بسبب عملية التحريف الكبرى التي تعرضتا لها بعد موسى وعيسى (عليهما السلام ) أن تقدما انموذجا إيجابيا بناءً للانسان العربي ولم تحدث في صفاته الذميمة وعاداته السيئة أي تغيير أو تبديل حتى أن بعض النصارى من العرب كقبيلة تغلب مثلا لم يكونوا يعرفون من النصرانية إلا شرب الخمر...

       إلا أن اليهودية والنصرانية ساهمتا مع ذلك في تحضير الانسان العربي للفجر الجديد، وذلك بالتبشير بقرب ظهور نبي عربي فكان اليهود يتوعدون العرب الوثنيين ويقولون لهم: ليخرجن نبي فيكسرن أصنامكم.

 وقد سمي جماعة منهم لأبناءهم (محمدا) رجاء أن يكون هو النبي المنتظر ... كل ذلك هيأ الأجواء معنويا لتقبل ظهور النبي (ص). وبسبب وزن أهل الكتاب علميا عند العرب في الجاهلية فقد اكتسبت هذه التنبؤات بُعدا حقيقيا انعكس قبولا للدعوة واستجابة لها.

            وأما على المستوى السياسي فإن سكان شبه الجزيرة العربية آنذاك، لم يخضعوا لأي نظام أو سلطة مركزية غير سلطة القبيلة.

وبسبب أن معظم سكان هذه المنطقة كانو من البدو الرحل الذين يمسون في مكان ويصبحون  في آخر من جهة، وبسبب رفضهم لجميع انواع التسلط الذي يحد من حرية الأفراد والقبيلة من جهة ثانية، وبسبب بعض العوامل الاقتصادية نظرا لكون طبيعة المنطقة صحراوية، لا تصلح للزراعة والعمل ولا تساعد على الاستقرار وتنظيم الحياة والانتاج من جهة ثالثة.

       لأجل ذلك نجد أن هذه المنطقة بقيت بعيدة عن سيطرة ونفوذ الدول الكبرى انذاك كدولة الفرس ودولة الرومان، فلم تخضع المنطقة لحكم، أي من هؤلاء ولم تتأثر بمفاهيمهم واديانهم كثيراً.

       ومن هنا فقد نشأت عن هذا الوضع ظاهرة الدويلات القبلية، فكان لكل قبيلة حاكم، ولكل صاحب قوة سلطان، ولم يكن يجمعهم نظام مركزي واحد، أو سلطة سياسية مركزية، وإنما كانوا يعيشون فراغا سياسيا من هذا الجانب.

 أما الوضع الاجتماعي: فإن الحياة الصعبة التي كان يعيشها الإنسان العربي في البادية والحكم القبلي، وعدم وجود روادع دينية أو وجدانية قوية، دفعت بالقبائل والتجمعات السياسية إلى ممارسة الحرب والاعتداء على بعضها البعض كوسيلة من وسائل تأمين العيش احيانا، وأحيانا لفرض السيطرة والنفوذ، واحيانا اخرى للثأر والاقتصاص.

ولذلك فإن من يطالع كتب التاريخ يرى بوضوح إلى أي حد كانت الحالة الاجتماعية متردية في تلك المرحلة، فالسلب والنهب والإغارة والتعصب القبلي، كان من مميزات ذلك المجتمع، حتى إذا لم تجد القبيلة من تغير عليه من اعدائها، اغارت على اصدقائها وحتى على ابناء عمها.

وكانت لأتفه الاسباب تحدث بينهم حروب طاحنة ومدمرة يذهب ضحيتها آلاف الناس وتستملر لسنوات طويلة، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما عرف بحرب داحس والغبراء وهما فرسان يلك أحدهما قيس بن زهير ويملك الآخر حذيفة بن فزارة ، فقد استبقا واختلفا حول السابق منهما ، وقد أدى اختلافهما بسبب هذا الامر التافه الى التنازع ونشوب الحرب بين قبيلتيهما حيث استمرت الحرب بينهما اربعين سنة من سنة 568 وحتى سنة 608م.

وأفضل مرجع للتعرف الى ملامح الوضع الاجتماعي في العهد الجاهلي هو كلمات أمير المؤمنين علي (ع)التي يصف فيها حال العرب قبل بعثة النبي (ص) حيث يقول في بعض كلماته: إن الله بعث محمدا(ص) نذيرا للعالمين أمينا على التنزيل، وانتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار منيخون بين حجارة خشن وحيات صم ، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دمائكم، وتقطعون أرحامكم، والاصنام فيكم منصوبة والأصنام بكم معصوبة. نهج البلاغة:خ 26

ويقول جعفر بن ابي طالب(رض) وهو يصف الوضع الجاهلي لما دخل على النجاشي قال: كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع اللارحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف.

وأما الوضع الاخلاقي العام: فقد كانت القسوة والفاحشة وتعاطي الخمر والربا ووأد البنات والأبناء خشية العار والفقر وظاهرة انعدام الغيرة هي السمات العامة للاخلاق المتفشية في المجتمع الجاهلي.

وقد اشار القرآن إلى بعض حالاتهم وأوضاعهم من هذه الجهة فقال تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة  ومقتا وساء سبيلا) النساء / 22.

(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء،وإن اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) النور / 33.

(ولا تقتلوا أولادكم من املاق نحن نرزقكم وإياهم) الانعام/151

(وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت)  التكوير / 9

(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، ايمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) النحل / 58 – 59

هذه هي بعض أوضاع وأحوال المجتمع في شبه الجزيرة العربية عند ولادة النبي (ص). وفي قلب هذا المجتمع المتردي على كل المستويات والذي يتطلب عملية تغيير شاملة، ولد رسول الله (ص) ليكون قائد عملية التغيير هذه بالوحي الالهي وبالرعاية الربانية وعلى اساس الحق والصدق والطهر، وقد استطاع هذا المولود بعد أن بعث رسولا للعالمين وفي فترة وجيزة جدا أن ينقل هذه الأمة من حضيص الذل والمهانة إلى أوج العظمة والكرامة، وأن يغرس فيها شجرة الإيمان التي من شأنها أن تغير فيها كل عاداتها ومفاهيمها الجاهلية وأن تقضي على كل اسباب شقائها وآلامها.

لقد استطاع النبي (ص) في فترة لا تتجاوز سنواتها اصابع اليدين أن يحقق اعظم إنجاز في منطقة كانت لها تلك الصفات وان يحدث انقلابا حقيقيا وجذريا في عقلية وافكار ومواقف وسلوك واخلاق تلك الأمة وفي مبادئها ومفاهيمها. وأن ينقلها من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة.

وقد عبر عن ذلك جعفر بن ابي طالب لملك الحبشة بعد أن بين له الأوضاع المتردية التي كان يعيشها الناس قبل مبعث النبي (ص) فقال: "فكنا عل ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث، واداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة.

ولعل من اهم العوامل التي ساعدت النبي (ص)على الانتصار في مشروعه الإلهي والإنساني – الحضاري في سرعة قياسية هي: شخصيته العظيمة وخصائصه ومميزاته الذاتية والقيادية، أي سيرته، واخلاقه، وسلوكه، وقيادته، وإدارته، واسلوبه في نشر الدعوة، وإصراره على مواصلة الطريق، وتحمله كل المشاق والآلام والأذى،ورفضه لكل المساومات والتسويات وصبره وثباته في مواقع التحدي.

لقد امتازت شخصية رسول الله (ص) بالاخلاق الإنسانية السامية، وحسن معاشرة الناس ومعاملتهم بالرفق واللين والرحمة، والقدرة على تحمل الألالم والمصاعب والأذى والتحديات الكبيرة.

قال تعالى: "فبما رحمة من الله كنت لهم، ولوكنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".

ونستعرض هنا نماذج من خلقه وسلوكه الفردي والاجتماعي الذي كان له كبير الأثر في جذب واستقطاب الناس إليه وإلى رسالته ومشروعه، حسبما ورد في النصوص عن اهل البيت (ع) الذين هم أعرف الناس برسول الله (ص) وشخصيته وسيرته وسلوكه.

فقد روى الإمام الحسن (ع) عن ابيه علي بن ابي طالب (ع) قال: كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب – من الصخب وهو شدة الصوت ولا فحاش ولا  عياب ولا مداح.

وكان يخاطب قومه ويقول: يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

وكان علي (ع) أذا وصف رسول الله (ص) قال: " كان اجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، واصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، واكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه،ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده".

وكان (ص) شديد المداراة للناس حتى قال (ص): " اعقل الناس اشدهم مداراة للناس، وأذل الناس من أهان الناس.

وكان (ص) عذب اللسان ولم يكن سليطا أوهجاءً بل كان ابعد ما يكون عن الفحش والبذاءة، فقد قيل يا رسول الله أدع على المشركين فقال: " إني لم ابعث لعانا وإنما بعثت رحمة".

وكان (ص) لا يذم أحدا، ولا يعير احدا، ولا يفتش عن عيوب أحد، ولا يتكلم في غير حاجة أو فيما لا يعنيه.

وكان (ص) يبادر من لقيه بالسلام والمصافحة فيسلم حتى على الصغير، وكان من سأله حاجة قضاها له إن قدر على ذلك، وإلا واجه صاحب الحاجة بكلمة طيبة أو دعاء أو نصيحة، وكان إذا فقد الرجل من اخوانه ثلاثة ايام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره،وإن كان مريضا عاده.

وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جل اسمه، ولا يتخذ لنفسه مكانا خاصا في المجلس، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر اصحابه بذلك، وقد وسع الناس باخلاقه لرحابة صدره، فكان لهم ابا رحيما وصاروا عنده في الحق سواء.

مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وامانة، لا ترفع فيه الأصوات،ولا ترتكب فيه المحرمات ولا يهان فيه أحد، وجلسائه متواضعون متفاضلون بالتقوى، يوقرون في مجلسه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.

وعن زيد بن ثابت قال: إن النبي (ص) كان إذا جلسنا إليه، إذا اخذنا بحديث في ذكر الآخرة اخذ معنا، وإن اخذنا في ذكر الدنيا اخذ معنا، وإن اخذنا في ذكر الطعام والشراب اخذ معنا.

وفي سمو اخلاقه وادابه مع جلسائه يقول الإمام الصادق (ع): وكان رسول الله (ص) يقسم لحظاته نظراته – بين اصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، ولم يبسط – يمد – رسول الله (ص) رجليه بين اصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده".

ومن مصاديق رفقه بالآخرين ومعاملته لهم بالحسنى، وما رواه يونس الشيباني قال: قال ابو عبد الله الصادق (ع) كيف مداعبة بعضكم بعضا؟ قلت قليل.  فقال (ع) : فلا تفعلوا فإن المداعبة من حسن الخلق، وانك لتدخل بها السرور على اخيك، ولقد كان رسول الله (ص) يداعب الرجل يريد أن يسره.

هكذا كانت سيرة رسول الله (ص) مع اصحابه وأمته، لقد كان يتعامل مع جميع الناس بعاطفة ابوية تتفجر حبا وعطفا وحنانا ورحمة.

وقد كان هذا السلوك النبوي المحمدي الأصيل، وتلك الأخلاق والخصائص النبيلة التي توافرت في شخصيته العظيمة أحد اهم العوامل في انتصاره وفي انتصار المشروع الإسلامي وسرعة امتداده وانتشاره ونفوذه. (ولكم في رسول الله أسوة حسنة)

والحمد لله رب العالمين