شهدت السنوات الأخيرة محاولات مدروسة للنيل من شخصية النبي محمد بن عبد الله (ص)، تمثّلت في قيام بعض الغربيين ووسائل إعلام غربية برسوم كاريكاتورية ساخرة ومهينة لرسول الله (ص)، وإصدار بعض الأفلام والمقالات المسيئة، والإيحاء بأنّ محمداً رجل ينتهك حقوق الإنسان ولا يعرف الرحمة.
وقد بدأت هذه المحاولات بكتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، واستمرّت مع الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لرسول الإسلام، التي نُشرت في الدنمارك قبل سنوات، والفيلم الأميركي Innocence of Muslims الذي يتّهم النبي محمد بالشذوذ، وصولاً إلى الرسوم الكاريكاتورية الجديدة في فرنسا التي غطّاها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون بذريعة حرية التعبير. ومن المعلوم أنّ كتُب السيرة والتاريخ، فيها ما يكفي من النصوص والمرويات الدخيلة والمندسّة التي ربما تشكّل مادة دسمة للمسيئين للنيل من شخصية رسول الله محمد وتشويه صورته المقدسة.
وهذا ما يدعونا إلى أن نقرأ كتب السيرة والتاريخ بحذر ووعي، وأن لا نأخذ منها إلّا ما ينسجم مع الواقع التاريخي الصحيح، ومع الصورة الحقيقية لرسول الله (ص) التي عكستها النصوص والدلائل والشواهد الصحيحة. ولا شكّ في أنّ سلسلة الإهانات التي تعرّض لها النبي محمد، أخيراً، لم تكن عملاً فرديّاً كما يحاول البعضُ أن يروّج، بل هي عملٌ تقف وراءه جهات دولية وأجهزةُ استخبارات عالمية، حرّضت على إنتاج هذه الأعمال وعرضِها ونشرِها تحت عنوان حرية الرأي، وقد كشف منتج الفيلم المسيء للنبي الذي صدر في أوروبا قبل سنوات، الهولنديArnoud Van Doorn في حوار معه نشرته صحيفة «الرأي» الكويتية، أنّ لوبياً أميركيا - إسرائيلياً شجّعه على إنتاج الفيلم.
لقد أسقطت هذه الأعمال القناع عن الوجه الحقيقي للغرب، وكشفت عن كنه العداء الذي يضمره للإسلام، بل ولكل ما هو مقدّس وديني. ولعلّ من الأهداف الخطيرة لهذا النوع من الإساءات، هو تخريب العلاقات الإسلامية المسيحية، وإيقاع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وجرّهم إلى صراع دينيّ وطائفيّ دمويّ، وإضعاف الإيمان الديني لدى الشعوب، وإبعادهم عن رموزهم ومقدساتهم التي هي مصدر وحدتهم وقوّتهم.
وثمة خشية حقيقية من أن تكون الاستهدافات والإساءات الجديدة للإسلام ولرسوله الأعظم التي صدرت في كلّ من الدنمارك والسويد وهولندا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، بما فيها كلام الرئيس الفرنسي الأخير عن الإسلام، أداةً في استراتيجية الحرب الناعمة التي يقودها الغرب ضد الإسلام والشعوب والجاليات الإسلامية، ومقدمةً لسلسلة أخرى من الإساءات التي يمكن إدراجُها في سياق هذه الحرب بغية تحقيق الأهداف المذكورة وغيرها.
ولكن حتى الآن يمكننا القول إنه تمّ تعطيل هذه الأهداف بفعل طريقة تعاطي الشعوب والقادة الروحيين والسياسيين، من مسلمين ومسيحيين، مع هذا النوع من الإساءات. حيث إنّ حالة الغضب التي سادت في جميع الدول الإسلامية بسبب الإساءات الفرنسية الأخيرة، وخروج الآلاف على امتداد العالمَين العربي والإسلامي للتعبير عن استنكارهم لتلك الإهانات من جهة، واحترامِهم وتقديسِهم لنبي الإسلام من جهة أخرى، ومسارعةَ قادةٍ مسيحيين دينيين وسياسيين إلى إدانة التعرّض للإسلام، واعتبارهم أنّ الإساءة للإسلام ولنبيّه هي إساءة للمسيح وللمسيحية، كان لها أثر بالغ في تعطيل هذه الأهداف الخطيرة.
بل إنّ محاولات الإساءة، من خلال الكتابات والرسوم والأفلام وغيرها، كانت ولا تزال تعطي مفعولاً معاكساً للنيات والأهداف التي كان يضمرها الأميركيون والصهاينة، بعدما جرى تحويل هذه القضية، بفعل وعي الناس والقادة، من مشروع انقسام وفتنة إلى مناسبة لتأكيد الوحدة على المستوى الإسلامي - الإسلامي، وعلى المستوى الإسلامي - المسيحي.
وخلافاً لكلّ ما قيل أو قد يُقال في الغرب وفي غيره، تحت عنوان حرية الرأي والتعبير، للنيل من الشخصية الإنسانية الرحيمة لرسول الإسلام، فإنّ سيرة وسلوك وأخلاق هذا الرسول العظيم تكشف عن كماله وسموّه الإنساني، وعن سلوك حضاري لم يعرف التاريخ مثيلاً له.
فقد عُرفت هذه الشخصية برجاحة العقل، وأصالة الفكر، وقوة الحكمة، وحسن التدبير، واشتُهرت بالطهر والصدق والأمانة والعفاف، وامتازت بالأخلاق الإنسانية السامية، وبحسن معاشرتها للناس ومعاملتهم بالرفق واللين والرحمة والعفو والتسامح والتواضع والترفّع عن إساءاتهم وتجاوزاتهم. بل إنّ من يلقي نظرة على التاريخ الصحيح للنبي محمد، سيكتشف أنّه كان قمة في التسامح والرحمة والعطف واللين، وأنه كان أشفق الناس على الناس، وأرأف الناس بالناس، ولأجل ذلك فقد اعتبر القرآن هذه الخصائص والصفات من أبرز معالم شخصيته الإنسانية والرسالية، حيث قال مبيّناً هدف إرساله: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». وقال واصفاً رحمته ورأفته: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك». وقال: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم». ويقول النبي (ص) عن نفسه: «إنما أنا رحمة مهداة». وعندما قيل له ادع على المشركين قال: «إني لم أبعث لعّاناً وإنّما بعثت رحمة».
وقد شملت رحمته الجميع: الرجال والنساء، والكبار والصغار، الأصحاب والخصوم والأعداء، وكان طابع سلوكه العام في كلّ المجالات العفو والتسامح، سواء في السلم والحرب، أو في الإدارة والسياسة، أو في مختلف المواقع. ومن عظيم رحمته التي خلّدها التاريخ، أنّه عفا عن أهل مكة يوم الفتح، ووقف منهم موقفاً رحيماً، بالرغم من كلّ العذاب والآلام والمعاناة وأنواع الأذى التي واجهته بها قريش قبل الهجرة وبعدها، وبالرغم من كيدها ومؤامراتها واعتداءاتها وحروبها وإرهابها الذي مارسته على مدى سنين بحق المسلمين.
فقد وقف (ص) على باب الكعبة بعد الفتح مخاطباً أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف: لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وعندما قال أحد أصحابه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة.
قال (ص): اليوم يوم المرحمة، اليوم تراعى الحرمة.
بهذه النفس الرحيمة، وبهذا الخلق الإنساني الرفيع، يعامل رسول الله (ص) أشدّ الناس عداوة له بعدما تمكّن منهم ومن رقابهم. إنّ هذا الخلق النبوي المحمدي الأصيل، لم ولن تستطيع أن تنال منه لا محاولات التشويه التي جرت في التاريخ، ولا كلّ الإساءات التي جرت في الحاضر، أو تلك التي يمكن أن تصدر في المستقبل. الغرب اليوم مدعوّ إلى إعادة النظر في سلوكه المعادي للجاليات الإسلامية وقيمها الدينية، وفي انطباعاته السلبية عن الإسلام، والتي غالباً ما تكون ناجمة، إما عن جهل وقلة معرفة بالواقع الإسلامي وحقائق الإسلام، أو عن عنصرية وأحقاد مضمرة. فالإساءة لرسول الله محمد، ليست حرية رأي، بل إهانة لكلّ الأديان السماوية ورموزها، وجريمة بحق المقدّسات الإنسانية، وخطوة استفزازية لمشاعر ملايين المسلمين في العالم، ودعوة صريحة للكراهية والعنف، وذريعة واضحة لممارسة الإرهاب ضد المسلمين. والإسلام ليس في أزمة كما يدّعي السيد إيمانويل ماكرون؟! بل الأزمة في الجهل به، وفي أخلاق الحاقدين عليه.
*قيادي في حزب الله